في كل مجتمع كثيرٌ من ذوي الطباع الشاذة ، والخصال البغيضة المرذولة ، يشتهرون بها بين الناس ، وتقترن بذكرهم في كل مجال ومقال ، فيلحقهم بها دائمًا السُّبة والزِّراية والعار ، ومن هؤلاء أصحاب الكذب ، وأرباب النفاق ، والسفهاء ، والجبناء ، والبخلاء ، وغيرهم ممن حادوا عن الخلق القويم أو العرف السليم .
ولكن يمتاز البخلاء ، بأن الحديث عنهم محبب إلى النفوس ، خفيف على الأسماع ، وقصصهم دائمًا موضع التندر والفكاهات ، تنبسط النفس لها ، وتهشُّ لسماعها ، لما فيها من عرض الطبيعة البشرية في مظهر الجمود والكزازة ، وتصوير الغريزة الإنسانية في مجالي الحرص والشراهة ، ولما يبهج النفس في هذه القصص من ألوان الشذوذ ، وطرائف الحيل ، وخرق العرف المألوف بين الناس .
وإذا كانت سير البخلاء حديث المجتمعات ، ومادة للسمر الشائق في المنتديات ، فقد كانت كذلك مادة للأدب والأدباء ، شغلوا بها وألًّفوا فيها ، واتخذوا منها نواة لأشهى القصص ، وأعذب الروايات ، كما وجد فيها الشعراء مغامز جارحة لخصومهم ، فنظموا فيها أقذع الهجاء .
ومن أعظم الأدباء الذين عنوا بسير البخلاء (( الجاحظ )) ، فقد جمع كثيرًا من سيرهم وقصصهم في كتاب سماه باسمهم ، تطالعك فيها صور من حياتهم التي كانوا يحيونها بين الناس ، واستطاع الجاحظ بما وسعه عقله من دراية بنوازع النفس وميولها وأطماعها ، ومن إحاطه بأساليب الحياة في بلاده وعصره ، أن يعالج نفسيات البخلاء ، وأهواءهم وفلسفتهم ، على غرار عجيب ونظم فائق ، وإستيعاب باهر ، حتي ليخيل إليك وأنت تقرأ هذا الكتاب ، أنك ترى هؤلاء الذين درجوا وطوتهم الأيام أحياء متكلمين ، ومجادلين مناضلين ، يفهمون الحياة على نحو من الفهم غريب عجيب .
ويعد كتاب (( البخلاء )) هذا من عيون الكتب الأدبية ، ومن أنفس ما تركه (( الجاحظ )) من آثار ومؤلفات .
وهذه طائفة من نوادر البخلاء :
قال رجل لبعض البخلاء : لمَ لا تدعوني إلى طعامك ؟ قال : لأنك جيد المضغ ، سريع البلع ، إذا أكلت لقمة هيأت أخرى ، قال : يا أخي ، أتريد إذا أكلت عندك أن أصلي ركعتين بين كل لقمتين ؟
وقال آخر لبخيل : لمَ لا تدعوني إلى طعامك ؟ قال : لأنك تُعَلِّق وتُشَدِّق وتُحَدِّق ، أي تحمل واحدة في يدك ، وأخرى في شدقك ، وتنظر إلى الأخرى بعينيك .
وطبخ بعض البخلاء ، وجلس يأكل مع زوجته ، فقال : ما أطيب الطعام ، لولا كثيرة الزحام . فقالت : وأي زحام ، وما ثَمَّ إلا انا وأنت ؟ قال : كنت أحب أن أكون انا والإناء .
وقال بعض البخلاء لغلامه : هات الطعام وأغلق الباب ، فقال الغلام : يا مولاي ، ليس هذا بحزم ، وإنما أُغلق الباب وأُقدِّم الطعام ، فقال له : أنت حر لوجه الله .
وعزم بعض إخوان أشعبَ عليه ليأكل عنده ، فقال : إني أخاف من ثقيل يأكل معنا فينغض لذتنا ، فقال : ليس عندي إلا ما تحب ، فمضى معه ، فبينما هما يأكلان ، إذا بالباب قد طرق ، فقال أشعب : ما أرانا إلا صرنا لما نكره ، فقال صاحب المنزل إنه صديق لي ، وفيه عشر خصال ، إذا كرهت منها واحدة ، لم آذن له ، فقال أشعب : هات ، فقال : أولها أنه يأكل ولا يشرب ، فقال أشعب : التسع لك ودعه يدخل ، فقد أمنا منه ما نخافه .
وكان بعضهم إذا صار الدرهم في يده يخاطبه ويقول : بأبي أنت وأمي ، كم من أرض قطعت ، وكيس فارقت ، وكم من خامل رفعت ، ومن رفيع أخملت ، الآن أستقر بك القرار ، واطمأنت بك الدار ، لك عندي ألا تعرى ولا تضحى ، ثم يلقيه في كيسه ويقول : اسكن على إسم الله ، في مكان لا نزول عنه ، ولا إنزعاج منه .
وممن اشتهروا بالبخل (( خالد بن صفوان )) ، كان إذا أخذت جائزته قال للدرهم : طالما سرت في البلاد ، والله لأطيلن حبسك ، ولأديمن لبثك .
وقيل له : لم لا تنفق ومالك عريض ؟ قال : الدهر أعرض منه ، قيل : كأنك تؤمل أن تعيش الدهر كله ، قال : ولا أخاف أن أموت في أوله .
ومنهم (( أبو الأسود الدؤلي )) ، ومن قصصه أنه عمل دكانًا عاليًا يجلس عليه ، فكان إذا أكل عليه لا يناله المجتاز ، فمر به أعرابي على جمل ، فعرض عليه أن يأكل معه ، وظن أنه لا يناله ، فأناخ الأعرابي بعيره ، حتى وازى الدكان وأكل معه ، فما جلس بعد ذلك على الدكان ، وكان يقول : لو أطمعنا المساكين في أموالنا ، كنا أسوأ حالًا منهم ، وقال لبنيه : لا تطمعوا المساكين في أموالكم ، فإنهم لا يقنعون منكم ، حتى يروكم في مثل حالهم .
ولم يقف البخل عند أدنياء الناس وأوساطهم ، بل تجاوزهم إلى الملوك والخلفاء .
ومن هؤلاء الخلفاء البخلاء (( عبد الملك بن مروان )) وكان لبخله يلقب برشح الحجر ولبن الطير .
ومنهم إبنه (( هشام )) ، وكان ينظر في بيع الهدايا التي تهدى إليه ، وحكي عنه : أن أعرابيًا أكل عنده ، فرفع اللقمة إلى فيه ، فقال له هشام : " في لقمتك شعرة يا أعرابي " ، فقال : " وإنك تلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة والله لا أكلت عندك أبدًا " ، ثم قام وإنصرف .
وقد نظم الشعراء في البخل والبخلاء شعرًا كبيرًا . جمع إلى الرقة ، وخفة الدعابة ، ومرارة التنديد ، ولذع الهجاء .
فيقول ابن الرومي :
يُقتِّر عيسى على نفســـــــــــه وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيــــــع لتقــــــــــــتيره تنفس من منخر واحد
رضيت لِتَشتِــــيت أموالـــــــه يَدىْ وارث ليس بالحامد
لك الله يا ابن الرومي ، ما أقذع هجوك وما أقسى سخريتك ! أمن الناس من يبخل بالهواء ؟ فلا يتنفسه إلا بأحد منخريه ، توفيرًا له وإبقاء عليه ؟
وانظر قول الشاعر يهجوا بخيلًا :
إذا كُســــــر الرغيــــف بكى عليـه بكى الخنساء إذا فُجعت بصخرِ
ودون رغيفـــه قلــــع الثنايــــــــا وحرب مثل وقعة يومِ بدرِ
أرأيت كيف كانت فجيعة الخنساء بموت أخيها صخر ؟ وكيف كان مُصابُها فيه . وبكاؤها عليه ؟ لقد كان على رغيف ذلك البخيل مثل هذا البكاء وهذا العويل , فإن طمعت في شئ منه فتأهب لتضحية جسيمة ، تتنازل فيها عن بعض أسنانك ، أو وقعة عنيفة تنال فيها خصمًا شديد البأس قوي المراس .