قال أبو جعفر: يقول تعالـى ذكره: يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم بطاعته, فأطيعوه ولا تعصُوه, فإن عقابه لـمن عاقبه يوم القـيامة شديد. ثم وصف جلّ ثناؤه هول أشراط ذلك الـيوم وبدوّه, فقال: إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةٍ شَيْءٌ عَظِيـمٌ.
واختلف أهل العلـم فـي وقت كون الزلزلة التـي وصفها جلّ ثناؤه بـالشدّة, فقال بعضهم: هي كائنة فـي الدنـيا قبل يوم القـيامة. ذكر من قال ذلك:
18831ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن إبراهيـم, عن علقمة, فـي قوله: إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ قال: قبل الساعة.
18832ـ حدثنـي سلـيـمان بن عبد الـجبـار, قال: حدثنا مـحمد بن الصلت, قال: حدثنا أبو كدنـية, عن عطاء, عن عامر: يا أيّها النّاسُ اتقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظيـمٌ قال: هذا فـي الدنـيا قبل يوم القـيامة.
18833ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن ابن جُرَيج فـي قوله: إنّ زَلْزَلَةَ السَاعَةِ فقال: زلزلتها: أشراطها... الاَيات يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن عامر: يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ قال: هذا فـي الدنـيا من آيات الساعة.
وقد رُوي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحو ما قال هؤلاء خبر, فـي إسناده نظر وذلك ما:
18834ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي, عن إسماعيـل بن رافع الـمدنـي, عن يزيد بن أبـي زياد, عن رجل من الأنصار, عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ, عن رجل من الأنصار, عن أبـي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لـمَا فَرَغَ اللّهُ منْ خَـلْقِ السمَوَاتِ والأرْضِ, خَـلَقَ الصّوْرَ فأعْطاهُ إسْرَافِـيـلَ, فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلـى فـيهِ, شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلـى العَرْشِ, يَنْتَظِرُ مَتـى يُؤْمَرُ.» قال أبو هريرة: يا رسول الله, وما الصور؟ قال: «قَرْنٌ». قال: وكيف هو؟ قال: «قَرْنٌ عَظِيـمٌ يُنْفَخُ فـيهِ ثَلاثّ نَفَخاتٍ, الأُولـى: نَفْخَةُ الفَزَعِ, والثانـيَةُ: نَفْخَةُ الصّعْقِ, والثالِثَةُ: نَفْخَةُ القِـيامِ لِرَبّ العالَـمِينَ. يَأْمُرُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إسْرافـيـلَ بـالنّفْخَةِ الأُولـى, فَـيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ فَـيَفْزَعُ أهْلُ السّمَواتِ والأَرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ الله, ويَأْمُرُ اللّهُ فَـيُدِيـمُها وَيُطَوّلها, فَلا يَفْتُرُ, وَهِيَ التِـي يَقُولُ اللّهُ: ما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَـيُسَيّرُ اللّهُ الـجِبـالَ فَتَكُونُ سَرَابـا, وَتُرَجّ الأرْضُ بأهلها رَجّا, وَهِيَ الّتِـي يَقُولُ اللّهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ تَتْبَعُها الرّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ, فَتَكُونُ الأرْض كالسّفِـينَةِ الـموبَقَةِ فـي البَحْرِ تَضْرِبُها الأَمْوَاجُ تُكْفَأُ بأَهْلها, أوْ كالقِنْديـلِ الـمُعَلّقِ بـالعَرْشِ تُرَجّحُهُ الأَرْوَاحُ فَتَـمِيدُ الناسُ عَلـى ظَهْرِها فَتَذْهَلُ الـمَرَاضِعُ, وَتَضَعُ الـحَوَامِلُ, وَتَشِيبُ الولْدَانُ, وَتَطيرُ الشياطِينُ هارِبَةً حتـى تَأْتـي الأَقْطار فَتَلَقّاها الـمَلائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَها, فَترْجِعُ وَيُوَلّـي النّاس مُدْبِرِينَ يُنادِي بَعْضَهُمْ بَعْضَا, وَهُوَ الذِي يَقُولُ اللّهُ: يَوْمَ التنادِ يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ فَبَـيْنَـما هُمْ عَلـى ذلكَ, إذْ تَصَدّعَتِ الأرْضُ مِنْ قُطْرٍ إلـى قُطْرٍ, فَرَأوْا أمْرا عَظِيـما, وأَخَذَهُمْ لِذَلكَ مِن الكَرْبِ ما اللّهُ أعْلَـمُ بِهِ, ثُمّ نَظَرُوا إلـى السّماءِ فإذَا هِيَ كالـمُهْلِ, ثُم خُسِفَ شمْسُها وخُسِفَ قَمَرُها وَانْتَثرَتْ نُـجُومُها, ثُمّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والأمْوَاتُ لا يَعْلَـمُون بِشَيْءٍ مِنْ ذلكَ» فقال أبو هريرة: فمن استثنى لله حين يقول: فَفَزِعَ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ؟ قال: «أُولَئِكَ الشّهَدَاءُ, وإنّـمَا يَصلُ الفَزَعُ إلـى الأحْياء, أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبّهمْ يُرْزَقُونَ, وَقاهُمُ اللّهُ فَزَعَ ذلكَ الـيَوْم وآمَنَهُمْ. وَهُوَ عَذَابُ اللّهِ يَبْعَثُهُ عَلـى شِرَارِ خَـلْقِهِ, وَهُوَ الّذِي يَقُولُ: يا أيها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ... إلـى قوله: وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ».
وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبـيّ ومن ذكرنا ذلك عنه قولٌ, لولا مـجيء الصحاح من الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه, ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلـم بـمعانـي وحي الله وتنزيـله. والصواب من القول فـي ذلك ما صحّ به الـخبر عنه. ذكر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما ذكرنا:
18835ـ حدثنـي أحمد بن الـمقدام, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, قال: سمعت أبـي يحدّث عن قتادة, عن صاحب له حدّثه, عن عمران بن حُصين, قال: بـينـما رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي بعض مغازيه وقد فـاوت السّير بأصحابه, إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الاَية: «يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ». قال: فحَثّوا الـمطيّ, حتـى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هَلْ تَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ ذَلكَ؟» قالوا: الله ورسوله أعلـم. قال: «ذلكَ يَوْمَ يُنادَى آدَمُ, يُنادِيهِ رَبّهُ: ابْعَثْ بَعْثَ النارِ, مِنْ كُلّ ألْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلـى النّارِ» قال: فأبلس القوم, فما وضح منهم ضاحك, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا احْمَلُوا وأبْشِرُوا, فإنّ مَعَكُمْ خَـلِـيقَتَـيْنِ ما كانَتا فِـي قَوْمٍ إلاّ كَثَرَتاهُ, فَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنـي آدَمَ, وَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنـي إبْلِـيسَ وَيأْجُوجَ وَمأْجُوجَ». قال: «أبْشِرُوا, ما أنْتُـمْ فِـي النّاسِ إلاّ كالشّامَةِ فِـي جَنْبِ البَعِيرِ, أو كالرّقْمة فـي جَناحِ الدّابَة».
حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا هشام بن أبـي عبد الله, عن قتادة, عن الـحسن, عن عمران بن حصين, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم. وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا معاذ بن هشام, قال: حدثنا أبـي وحدثنا ابن أبـي عديّ, عن هشام جميعا, عن قَتادة, عن الـحسن, عن عمران بن حصين, عن البنـيّ صلى الله عليه وسلم بـمثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مـحمد بن بشر, عن سعيد بن أبـي عروبة, عن قَتادة, عن العلاء بن زياد عن عمران, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بنـحوه.
18836ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا عوف, عن الـحسن, قال: بلغنـي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لـما قـفل من غزوة العُسْرة, ومعه أصحابه, بعد ما شارف الـمدينة, قرأ: يا أيّها النّاسُ اتقُوا رَبكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها... الاَية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتَدْرُونَ أيّ يوم ذَاكُمْ»؟ قـيـل: الله ورسوله أعلـم. فذكر نـحوه, إلا أنه زاد: «وإنّهُ لَـمْ يَكُنْ رَسُولانِ إلاّ كانَ بَـيْنَهُما فَتْرَةٌ مِنَ الـجاهِلِـيّةِ, فَهُمْ أهْلُ النّارِ وإنّكُمْ بـينَ ظَهْرَانْـي خَـلِـيقَتَـيْنِ لا يُعادّهما أحدٌ مِنْ أهْلِ الأرْضِ إلاّ كَثَرُوهُمْ, وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ, وَهُمْ أهْلُ النارِ, وَتَكْمُلُ العِدّةُ مِنَ الـمُنافِقِـينَ».
18837ـ حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعوديّ, قال: حدثنا أبـي, عن أبـيه, عن جدّه, عن الأعمش, عن أبـي صالـح عن أبـي سعيد, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يُقالُ لاَدَمَ: أخْرِجْ بَعْثَ النّار, قالَ: فَـيَقُولُ: وَما بَعْثُ النّارِ؟ فَـيَقُولُ: مِنْ كُلّ ألْفٍ تِسْعَ مئَةٍ وتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَ ذلكَ يَشِيبُ الصّغِيرُ, وَتَضَعُ الـحاملُ حَمَلها, وَتَرَى النّاسَ سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى, وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَديدٌ». قالَ: قُلْنا فَأين الناجي يا رسول الله؟ قال: «أبْشِرُوا فإنّ وَاحِدا منْكُمْ وألْفـا منْ يَأْجُوجَ وَمأجُوجَ». ثُمّ قالَ: «إنّـي لأَطْمَعُ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهلِ الـجَنّةِ» فَكَبّرْنا وحَمِدْنا اللّهَ. ثم قال: «إنّـي لأَطْمَعُ أنْ تكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الـجَنةِ» فكَبّرْنا وحَمِدْنا اللّهَ. ثم قال: «إنّـي لأطْمَعُ أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الـجَنةِ إنّـمَا مَثَلُكُمْ فِـي النّاسِ كمَثَلِ الشّعْرَةِ البَـيْضَاءِ فـي الثّوْرِ الأسْوَدِ, أو كَمَثلِ الشّعْرَةِ السّوْدَاءِ فِـي الثوْرِ الأبْـيَضِ».
حدثنا أبو السائب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد الـخُدْريّ, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَقُول اللّهُ لاَدَمَ يَوْمَ القِـيامَةِ» ثم ذكر نـحوه.
حدثنـي عيسى بن عثمان بن عيسى الرملـيّ, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن أبـي صالـح, عن أبـي سعيد, قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الـحشر, قال: «يقولُ اللّهُ يَوْمَ القِـيامَةِ يا آدَمُ فَـيَقُولُ: لَبّـيْكَ وَسَعْدَيْكَ والـخَيْرُ بِـيَدَيْكَ فَـيَقُولُ: ابْعَثْ بَعْثا إلـى النّارِ». ثم ذكر نـحوه.
18838ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة, عن أنس قال: نزلت يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ... حتـى إلـى: عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ... الاَية علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم وهو فـي مسير, فرجّع بها صوته, حتـى ثاب إلـيه أصحابه, فقال: «أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ هَذَا؟ هَذَا يَوْمَ يَقُولُ اللّهُ لاَدَمَ: يا آدَمُ قُمْ فـابْعَثَ النارِ مِنْ كُلّ ألْفٍ تِسْعَ مئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ» فكُبر ذلك علـى الـمسلـمين, فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «سَدّدُوا وَقارِبُوا وأبْشِرُوا فَوَالّذِي نَفْسِي بِـيَدِهِ ما أنْتُـمْ فِـي الناسِ إلاّ كالشّامَةِ فـي جَنْبِ البَعِيرِ, أو كالرّقْمَةِ فِـي ذِرَاعِ الدّابّةِ, وإنّ مَعَكُمْ لَـخَـلِـيقَتَـيْنِ ما كانَتا فِـي شَيْءٍ قَطّ إلاّ كَثَرَتاهُ: يَأْجُوجُ وَمأْجُوجُ, وَمَنْ هَلَكَ من كَفَرَةِ الـجِنّ والإنْسِ».
18839ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن إسحاق, عن عمرو بن ميـمون, قال: دخـلت علـى ابن مسعود بـيت الـمال, فقال: سمعت النبـيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أتَرْضَوْنَ أن تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الـجَنةِ؟» قُلنا نعم, قال: «أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الـجَنةِ؟» قلنا: نعم قال: «فوَالّذِي نَفْسِي بـيَدِهِ, إنّـي لأرْجُوا أنْ تَكُونّوا شَطْرَ أهْلِ الـجَنّةِ, وَسأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذلكَ إنّه لا يَدْخُـلُ الـجَنّةَ إلاّ نَفْسٌ مُسْلِـمَةٌ, وَإنّ قِلّةَ الـمُسْلِـمِينَ فِـي الكُفّـارِ يَوْمَ القِـيامَةِ كالشّعْرَةِ السّوْدَاءِ فِـي الثّوْرِ الأبْبَضِ, أو كالشّعْرَةِ البَـيْضَاءِ فِـي الثّوْرِ الأسْوَدِ».
18840ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ قال: هذا يوم القـيامة.
والزلزلة: مصدر من قوله القائل: زلزلتُ بفلان الأرض أزلزلها زلزلة وزِلزالاً, بكسر الزاي من الزّلزال, كما قال الله: إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا وكذلك الـمصدر من كل سلـيـم من الأفعال إذا جاءت علـى فِعلال فبكسر أوّله, مثل وَسْوس وَسْوَسَة ووِسْواسا, فإذا كان اسما كان بفتـح أوّله الزّلزال والوَسْواس, وهو ما وسوس إلـى الإنسان, كما قال الشاعر:
يَعْرِف الـجاهِلُ الـمُضَلّلُ أنّ الدّهْرَ فِـيهِ النّكْرَاءُ والزّلْزَالُ
وقوله تعالـى: يَوْمَ تَرَوْنَها يقول جلّ ثناؤه: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة تذهل من عظمها كل مرضعة مولود عما أرضعت. ويعنـي بقوله: تَذْهَلُ تنسى وتترك من شدّة كربها, يقال: ذَهَلْت عن كذا أذْهَلَ عنه ذُهُولاً وَذَهِلْت أيضا, وهي قلـيـلة, والفصيح: الفتـح فـي الهاء, فأما فـي الـمستقبل فـالهاء مفتوحة فـي اللغتـين, لـم يسمع غير ذلك ومنه قول الشاعر.
صَحَا قَلْبُهُ يا عَزّ أوْ كادَ يَذْهَلُ
فأما إذا أريد أن الهول أنساه وسلاه, قلت: أذهله هذا الأمر عن كذا يُذهله إذهالاً. وفـي إثبـات الهاء فـي قوله: كُلّ مُرْضعَة اختلاف بـين أهل العربـية وكان بعض نـحويّـي الكوفـيـين يقول: إذا أثبتت الهاء فـي الـمرضعة فإنـما يراد أمّ الصبـيّ الـمرضع, وإذا أسقطت فإنه يراد الـمرأة التـي معها صبـيّ ترضعه لأنه أريد الفعل بها. قالوا: ولو أريد بها الصفة فـيـما يرى لقال مُرْضع. قال: وكذلك كل مُفْعِل أو فـاعل يكون للأنثى ولا يكون للذكر, فهو بغير هاء, نـحو: نُقْرب, ومُوقِر, ومُشْدن, وحامل, وحائض.
قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولـى بـالصواب فـي ذلك لأن العرب من شأنها إسقاط هاء التأنـيث من كل فـاعل ومفعل إذا وصفوا الـمؤنث به ولو لـم يكن للـمذكر فـيه حظّ, فإذا أرادوا الـخبر عنها أنها ستفعله ولـم تفعله, أثبتوا هاء التأنـيث لـيفرقوا بـين الصفة والفعل. منه قول الأعشى فـيـما هو واقع ولـم يكن وقع قبل:
وربـما أثبتوا الهاء فـي الـحالتـين وربـما أسقطوهما فـيهما غير أن الفصيح من كلامهم ما وصفت.
فتأويـل الكلام إذن: يوم ترون أيها الناس زلزلة الساعة, تنسى وتترك كلّ والدة مولود ترضع ولدها عما أرضعت. كما:
18841ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ قال: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.
18842ـ حدثنا القسام, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي بكر, عن الـحسن: تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ قال: ذهلت عن أولادها بغير فطام. وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها قال: ألقت الـحوامل ما فـي بطونها لغير تـمام. وتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا: يقول: وتسقط كل حامل من شدّة كرب ذلك حملها.
وقوله: وَتَرَى النّاسَ سُكارَى قرأت قرّاء الأمصار وَتَرَى النّاسَ سُكارَى علـى وجه الـخطاب للواحد, كأنه قال: وترى يا مـحمد الناس سُكارى وما هم بسُكارى. وقد رُوي عن أبـي زُرْعة بن عمرو بن جرير: «وَتُرَى النّاسَ» بضم التاء ونصب «الناس», من قول القائل: أُرِيْت تُرى, التـي تطلب الاسم والفعل, كظنّ وأخواتها.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: سُكارَى فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى. وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: «وَتَرَى النّاسَ سَكْرَى وَما هُمْ بِسَكْرَى».
والصواب من القول فـي ذلك عندنا, أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قَراءةَ الأمصار, متقاربتا الـمعنى, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب. ومعنى الكلام: وترى الناس يا مـحمد من عظيـم ما نزل بهم من الكرب وشدّته سُكارى من الفزع وما هم بسُكارى من شرب الـخمر.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18843ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن أبـي بكر, عن الـحسن: وَتَرَى النّاسَ سُكارَى من الـخوف, وَما هُمْ بِسُكارى من الشراب.
18844ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قوله: وَما هُمْ بِسُكارَى قال: ما هُم بسكارى من الشراب وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ.
18845ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَتَرَى النّاسَ سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى قال: ما شربوا خمرا وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ يقول تعالـى ذكره: ولكنهم صاروا سكارى من خوف عذاب الله عند معاينتهم ما عاينوا من كرب ذلك وعظيـم هوله, مع علـمهم بشدّة عذاب الله.
18846ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فـي اللّهِ بغَيْرِ عِلْـمٍ قال: النضْر بن الـحارث.
ويعنـي بقوله: مَنْ يُجادِلُ فـي اللّهِ بغَيْرِ عِلْـمٍ من يخاصم فـي الله, فـيزعم أن الله غير قادر علـى إحياء من قد بَلـي وصار ترابـا, بغير علـم يعلـمه, بل بجهل منه بـما يقول. وَيَتّبِعُ فـي قـيـله ذلك وجداله فـي الله بغير علـم كُلّ شَيْطانٍ مّرِيدٍ.
يقول تعالـى ذكره: قُضي علـى الشيطان فمعنى: «كُتِبَ» ههنا قُضِي, والهاء التـي فـي قوله «علـيه» من ذكر الشيطان. كما:
18847ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر عن قتادة: كُتِبَ عَلَـيْهِ أنّهُ مَنْ تَوَلاّهُ قال: كُتب علـى الشيطان, أنه من اتبع الشيطان من خـلق الله.
18848ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: كُتِبَ عَلَـيْهِ أنّهُ مَنْ تَوَلاّهُ قال: الشيطان اتبعه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد أنّهُ مَنْ تَوَلاّهُ, قال: اتبعه.
وهذا احتـجاج من الله علـى الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل فـي الله بغير علـم, اتبـاعا منه للشيطان الـمريد وتنبـيه له علـى موضع خطأ قـيـله وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه. قال: يا أيها الناس إن كنتـم فـي شكّ من قدرتنا علـى بعثكم من قبوركم بعد مـماتكم وبلاكُم استعظاما منكم لذلك, فإن فـي ابتدائنا خـلق أبـيكم آدم صلى الله عليه وسلم من تراب ثم إنشائناكم من نطفة آدم ثم تصريفناكم أحوالاً حالاً بعد حال, من نطفة إلـى علقة, ثم من علقة إلـى مُضغة, لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به, فتعلـمون أن من قدر علـى ذلك فغير متعذّر علـيه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتـم أحياء قبل الفناء.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: مخـلّقةٍ وغَيْرِ مُخَـلّقَةٍ فقال بعضهم: هي من صفة النطفة. قال: ومعنى ذلك: فإنا خـلقناكم من تراب, ثم من نطفة مخـلقة وغير مخـلقة قالوا: فأما الـمخـلقة فما كان خـلقا سَوِيّا وأما غير مخـلقة فما دفعته الأرحام من النّطَف وألقته قبل أن يكون خـلقا. ذكر من قال ذلك:
18849ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن داود بن أبـي هند, عن عامر, عن علقمة, عن عبد الله, قال: إذا وقعت النطفة فـي الرحم, بعث الله ملَكا فقال: يا ربّ مخـلقة أو غير مخـلقة؟ فإن قال: غير مخـلّقة, مـجّتها الأرحام دما, وإن قال: مخـلقة, قال: يا ربّ فما صفة هذه النطفة أذكر أم أنثى؟ ما رزقها ما أجلها؟ أشقـيّ أو سعيد؟ قال: فـيقال له: انطلق إلـى أمّ الكتاب فـاستنسخ منه صفة هذه النطفة قال: فـينطلق الـملك فـينسخها فلا تزال معه حتـى يأتـي علـى آخر صفتها.
وقال آخرون: معنى قلك: تامة وغير تامة. ذكر من قال ذلك:
18850ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا سلـيـمان, قال: حدثنا أبو هلال, عن قَتادة فـي قول الله: مُخَـلّقَةٍ وغَيرَ مُخَـلّقَةٍ قال: تامة وغير تامة.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن قَتادة: مُخُـلّقَةٍ وغيرِ مُخَـلّقَةٍ فذكر مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك الـمضغة إنسانا وغير مصوّرة, فإذا صوّرت فهي مخَـلقة وإذا لـم تصوّر فهي غير مخَـلقة. ذكر من قال ذلك:
18851ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد فـي قوله: مُخَـلّقَةٍ قال: السّقط, مخـلّقة وغَير مُخَـلّقَة.
حدثنـي مـحمد بن عمر, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قول الله: مُخَـلّقَةٍ وَغيرٍ مُخَـلّقَةٍ قال: السقط, مخـلوق وغير مَخـلوق.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, بنـحوه.
18852ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن عامر أنه قال فـي النطفة والـمضغة إذا نكست فـي الـخـلق الرابع كانت نَسَمة مخـلقة, وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخـلقة.
18853ـ قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن حماد بن أبـي سلـمة, عن داود بن أبـي هند, عن أبـي العالـية: مُخَـلّقَةٍ وغَيرِ مُخَـلّقَةٍ قال: السقط.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: الـمخـلقة الـمصورة خـلقا تامّا, وغير مخـلقة: السّقط قبل تـمام خـلقه لأن الـمخـلقة وغير الـمخـلقة من نعت الـمضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة, لـم يبق لها حتـى تصير خـلقا سويّا إلا التصوير وذلك هو الـمراد بقوله: مُخَـلّقَةٍ وغَيرِ مُخَـلّقَةٍ خـلقا سويّا, وغير مخـلقة بأن تلقـيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فـيها الروح.
وقوله: لِنُبَـيّنَ لَكُمْ يقول تعالـى ذكره: جعلنا الـمضغة منها الـمخـلقة التامة ومنها السقط غير التامّ, لنبـين لكم قدرتنا علـى ما نشاء ونعرّفكم ابتداءنا خـلقكم.
وقوله: وَنُقِرّ فـي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى يقول تعالـى ذكره: من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلـى أمد وغاية, فـانا نقرّه فـي رحم أمه إلـى وقته الذي جعلنا له أن يـمكث فـي رحمها فلا تسقطه ولا يخرج منها حتـى يبلغ أجله, فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بـالـخروج منها, فـيخرج.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18854ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَنُقِرّ فِـي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: التـمام.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
18855ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَنُقِرّ فِـي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: الأجل الـمسمى: أقامته فـي الرحم حتـى يخرج.
وقوله: ثُمّ نُـخْرِجُكُمْ طِفْلاً يقول تعالـى ذكره: ثم نـخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتـم الأجل الذي قدرته لـخروجكم منها طفلاً صغارا ووحّد «الطفل», وهو صفة للـجميع, لأنه مصدر مثل عدل وزور. وقوله: ثُمّ لِتَبْلُغُوا أشُدّكُمْ يقول: ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم.
وقد ذكرت اختلاف الـمختلفـين فـي الأشدّ, والصواب من القول فـيه عندنا بشواهده فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع.
يقول تعالـى ذكره: ومنكم أيها الناس من يُتَوفـى قبل أن يبلغ أشدّه فـيـموت, ومنكم من يُنْسَأ فـي أجله فـيعمر حتـى يهرم فـيردّ من بعد انتهاء شبـابه وبلوغه غاية أشدّه إلـى أرذل عمره, وذلك الهرم, حتـى يعود كهيئته فـي حال صبـاه لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. ومعنى الكلام: ومنكم من يردّ إلـى أرذل العمر بعد بلوغه أشدّه لِكَيْلا يَعْلَـمَ مِنْ بَعْدِ عِلْـمٍ كان يعلـمه شَيْئا.
وقوله: وَتَرَى الأرْضَ هامِدَةً يقول تعالـى ذكره: وترى الأرض يا مـحمد يابسة دارسة الاَثار من النبـات والزرع. وأصل الهمود: الدروس والدثور, ويقال منه: همدت الأرض تهمد هُمودا ومنه قول الأعشى ميـمون بن قـيس:
قالَتْ قُتَـيْـلَةُ ما لِـجِسْمِكَ شاحِبـاوأرَى ثِـيابَكَ بـالِـياتٍ هُمّدَا
والهُمّد: جمع هامد, كما الرّكّع جمع راكع.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18856ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله: وَتَرَى الأرْضَ هامدَةً قال: لا نبـات فـيها.
وقوله: فإذَا أنْزَلْنا عَلَـيْها الـمَاء اهْتَزّتْ يقول تعالـى ذكره: فإذا نـحن أنزلنا علـى هذه الأرض الهامدة التـي لا نبـات فـيها والـمطرَ من السماء اهْتَزّتْ يقول: تـحركت بـالنبـات, وَرَبَتْ يقول: وأضعفت النبـات بـمـجيء الغيث.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18857ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: اهْتَزّتْ وَرَبَتْ قال: عُرِف الغيث فـي ربوها.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة: اهْتَزّتْ وَرَبَتْ قال: حسنت, وعرف الغيث فـي ربوها.
وكان بعضهم يقول: معنى ذلك: فإذا أنزلنا علـيها الـماء اهتزت. ويوجه الـمعنى إلـى الزرع, وإن كان الكلام مخرجه علـى الـخبر عن الأرض. وقرأت قراء الأمصار: وَرَبَتْ بـمعنى: الربو, الذي هو النـماء والزيادة. وكان أبو جعفر القارىء يقرأ ذلك: «وَرَبأَتْ» بـالهمز.
18858ـ حُدثت عن الفراء, عن أبـي عبد الله التـميـمي عنه.
وذلك غلط, لأنه لا وجه للرب ههنا, وإنـما يقال ربأ بـالهمز بـمعنى: حرس من الربـيئة, ولا معنى للـحراسة فـي هذا الـموضع. والصحيح من القراءة ما علـيه قراء الأمصار.
وقوله: وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ يقول جلّ ثناؤه: وأنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث مِنْ كُلّ نوع بهيج. يعنـي بـالبهيج: البهج, وهو الـحسن.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18859ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهيجٍ قال: حسن.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ذلك هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس من بدئنا خـلقكم فـي بطون أمهاتكم, ووصفنا أحوالكم قبل الـميلاد وبعده, طفلاً, وكهلاً, وشيخا هرما وتنبـيهناكم علـى فعلنا بـالأرض الهامدة بـما ننزل علـيها من الغيث لتؤمنوا وتصدّقوا بأن ذلك الذي فعل ذلك الله الذي هو الـحقّ لا شك فـيه, وأن من سواه مـما تعبدون من الأوثان والأصنام بـاطل لأنها لا تقدر علـى فعل شيء من ذلك, وتعلـموا أن القدرة التـي جعل بها هذه الأشياء العجيبة لا يتعذّر علـيها أن يحيـي بها الـموتـى بعد فنائها ودروسها فـي التراب, وأن فـاعل ذلك علـى كلّ ما أراد وشاء من شيء قادر لا يـمتنع علـيه شيء أراده, ولتوقنوا بذلك أن الساعة التـي وعدتكم أن أبعث فـيها الـموتـى من قبورهم جائية لا مـحالة لا رَيْبَ فـيها يقول: لا شك فـي مـجيئها وحدوثها, وأنّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِـي القُبُورِ حينئذٍ مَن فـيها من الأموات أحياء إلـى موقـف الـحساب, فلا تشكّوا فـي ذلك ولا تـمترُوا فـيه.
يقول تعالـى ذكره: ومن الناس من يخاصم فـي توحيد الله وإفراده بـالألوهة بغير علـم منه بـما يخاصم به. وَلاَ هُدًى يقول: وبغير بـيان معه لـما يقول ولا بُرْهان. وَلا كِتابٍ مَنِـيرٍ يقول: وبغير كتاب من الله أتاه لصحة ما يقول. منـير يقول بنـير عن حجته, وإنـما يقول ما يقول من الـجهل ظنّا منه وحسبـانا. وذكر أن عُنِـي بهذه الاَية والتـي بعدها النضر بن الـحارث من بنـي عبد الدار.
يقول تعالـى ذكره: يجادل هذا الذي يجادل فـي الله بغير علـم ثانِـيَ عِطْفِهِ.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي من أجله وصف بأنه يثنـي عطفه وما الـمراد من وصفه إياه بذلك, فقال بعضهم: وصفه بذلك لتكبره وتبختره. وذكر عن العرب أنها تقول: جاءنـي فلان ثانـي عطفه: إذا جاء متبخترا من الكبر ذكر من قال ذلك:
18860ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: ثانِـيَ عِطْفِهِ يقول: مستكبرا فـي نفسه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لاوٍ رقبته. ذكر من قال ذلك:
18861ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: ثانِـي عِطْفِهِ قال: رقبته.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
18862ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: ثانِـيَ عِطْفِهِ قال: لاوٍ عنقه.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك أنه يُعْرِضُ عما يُدْعَى إلـيه فلا يسمع له. ذكر من قال ذلك:
18863ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ثانِـيَ عِطْفِهِ يقول: يعرض عن ذكري.
18864ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ثانِـيَ عِطْفِهِ عَنْ سَبِـيـلِ الله قال: لاويا رأسه, معرضا مولـيا, لا يريد أن يسمع ما قـيـل له. وقرأ: وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْا رُؤُسَهُمْ ورأيْتَهُمْ يَصُدّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَإذَا تُتْلَـى عَلَـيْهِ آياتُنا وَلّـى مُسْتَكْبِرا.
18865ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: ثانِـيَ عِطْفِهِ قال: يعرض عن الـحقّ.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال الثلاثة متقاربـات الـمعنى وذلك أن من كان ذا استكبـار فمن شأنه الإعراضُ عما هو مستكبر عنه ولَـيّ عنقه عنه والإعراض.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله وصف هذا الـمخاصم فـي الله بغير علـم أنه من كبره إذا دُعي إلـى الله أعرض عن داعيه لوى عنقه عنه ولـم يسمع ما يقال له استكبـارا.
وقوله: لِـيُضِلّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ يقول تعالـى ذكره: يجادل هذا الـمشرك فـي الله بغير علـم معرضا عن الـحقّ استكبـارا, لـيصدّ الـمؤمنـين بـالله عن دينهم الذي هداهم له ويستزلهم عنه. لَهُ فِـي الدّنْـيا خِزْيٌ يقول جلّ ثناؤه: لهذا الـمـجادل فـي الله بغير علـم فـي الدنـيا خزي وهو القتل والذلّ والـمهانة بأيدي الـمؤمنـين, فقتله الله بأيديهم يوم بدر. كما:
18866ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: فِـي الدّنـيْا خِزْيٌ قال: قُتل يوم بدر.
وقوله: وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِـيامَةِ عَذَابَ الـحَرِيقِ يقول تعالـى ذكره: ونـحرقه يوم القـيامة بـالنار. وقوله: ذَلكَ بِـمَا قَدّمَتْ يَدَاكَ يقول جلّ ثناؤه: ويقال له إذا أذيق عذاب النار يوم القـيامة: هذا العذاب الذي نذيقكه الـيوم بـما قدمت يداك فـي الدنـيا من الذنوب والاَثام واكتسبته فـيها من الإجرام. وإنّ اللّهَ لَـيْسَ بِظَلاّمٍ للْعَبِـيدِ يقول: وفعلنا ذلك لأن الله لـيس بظلام للعبـيد فـيعاقب بعض عبـيده علـى جُرْم وهو يغفر مثله من آخر غيره, أو يحمل ذنب مذنب علـى غير مذنب فـيعاقبه به ويعفو عن صاحب الذنب ولكنه لا يعاقب أحدا إلا علـى جرمه ولا يعذب أحدا علـى ذنب يغفر مثله لاَخر إلا بسبب استـحق به منه مغفرته.
يعنـي جلّ ذكره بقوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُد اللّهَ عَلـى حَرْفٍ أعرابـا كانوا يقدمون علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, مهاجرين من بـاديتهم, فإن نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة والدخول فـي الإسلام أقاموا علـى الإسلام, وإلا ارتدّوا علـى أعقابهم فقال الله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ علـى شكّ, فإنْ أصابهُ اطمأنّ بهِ وهو السعة من العيش وما يشبهه من أسبـاب الدنـيا اطْمَأَنَ بِهِ يقول: استقرّ بـالإسلام وثبت علـيه. وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ وهو الضيق بـالعيش وما يشبهه من أسبـاب الدنـيا انْقَلَبَ عَلـى وَجْهِهِ يقول: ارتدّ فـانقلب علـى وجهه الذي كان علـيه من الكفر بـالله.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18867ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلـى حَرْفٍ... إلـى قوله: انْقَلَبَ عَلـى وَجْهِهِ قال: الفتنة البلاء, كان أحدهم إذا قدم الـمدينة وهي أرض وبـيئة, فإن صحّ بها جسمه ونُتِـجت فرسه مُهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأنّ إلـيه وقال: ما أصبت منذ كنت علـي دينـي هذا إلا خيرا وإن أصابه وجع الـمدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة, أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت منذ كنت علـى دينك هذا إلا شرّا وذلك الفتنة.
18868ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عنبسة, عن أبـي بكر, عن مـحمد بن عبد الرحمن بن أبـي لـيـلـى, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد فـي قول الله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلـى حَرْفٍ قال: علـى شكّ.
18869ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: عَلـى حَرْفٍ قال: علـى شكّ. فإنْ أصابهُ خيرٌ رَخاء وعافـية اطمأنّ بهِ: استقرّ. وإن أصَابَتْه فِتْنَةٌ عذاب ومصيبة انْقَلَبَ ارتدّ عَلـى وَجْهِهِ كافرا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, بنـحوه.
قال ابن جُرَيج: كان ناس من قبـائل العرب ومـمن حولهم من أهل القرى يقولون: نأتـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم, فإن صادفنا خيرا من معيشة الرزق ثبتنا معه, وإلا لـحقنا بأهلنا.
18870ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلـى حَرْفٍ قال: شك. فإنْ أصابَهُ خَيْرٌ يقول: أكثر ماله وكثرت ما شيته اطمأنّ قال: لـم يصبنـي فـي دينـي هذا منذ دخـلته إلا خير وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ يقول: وإن ذهب ماله, وذهبت ما شيته انْقَلَبَ علـى وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنـيْا والاَخِرَةَ.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, نـحوه.
18871ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلـى حَرْفٍ الاَية, كان ناس من قبـائل العرب ومـمن حول الـمدينة من القرى كانوا يقولون: نأتـي مـحمدا صلى الله عليه وسلم فننظر فـي شأنه, فإن صادفنا خيرا ثبتنا معه, وإلا لـحقنا بـمنازلنا وأهلـينا. وكانوا يأتونه فـيقولون: نـحن علـى دينك فإن أصابوا معيشة ونَتَـجُوا خيـلهم وولدت نساؤهم الغلـمان, اطمأنوا وقالوا: هذا دين صدق وإن تأخر عنهم الرزق وأزلقت خيولهم وولدت نساؤهم البنات, قالوا: هذا دين سَوْء فـانقلبوا علـى وجوههم.
18872ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلـى حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأَنّ بِهِ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلـى وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنـيْا والاَخِرَةَ قال: هذا الـمنافق, إن صلـحت له دنـياه أقام علـى العبـادة, وإن فسدت علـيه دنـياه وتغيرت انقلب, ولا يقـيـم علـى العبـادة إلا لـما صَلَـح من دنـياه. وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبـار أو ضيق, ترك دينه ورجع إلـى الكفر.
وقوله: خَسِرَ الدّنـيا والاَخِرَةَ يقول: غَبِن هذا الذي وصف جلّ ثناؤه صفته دنـياه لأنه لـم يظفر بحاجته منها بـما كان من عبـادته الله علـى الشك, ووضع فـي تـجارته فلـم يربح والاَخِرَةَ يقول: وخسر الاَخرة, فإنه معذّب فـيها بنار الله الـموقدة. وقوله: ذلكَ هُوَ الـخُسْرَانُ الـمُبِـينُ يقول: وخسارته الدنـيا والاَخرة هي الـخسران, يعنـي الهلاك. الـمُبِـينُ يقول: يبـين لـمن فكّر فـيه وتدبره أنه قد خسر الدنـيا والاَخرة.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته قرّاء الأمصار جميعا غير حميد الأعرج: خَسِرَ الدنـيا والاَخِرَةَ علـى وجه الـمضيّ. وقرأه حميد الأعرج: «خاسِرا» نصبـا علـى الـحال علـى مثال فـاعل.
يقول تعالـى ذكره: وإن أصابت هذا الذي يعبد الله علـى حرف فتنة, ارتدّ عن دين الله, يدعو من دون الله آلهة لا تضرّه إن لـم يعبدها فـي الدنـيا ولا تنفعه فـي الاَخرة إن عبدها. ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ يقول: ارتداده ذلك داعيا من دون الله هذه الاَلهة هو الأخذ علـى غير استقامة والذهاب عن دين الله ذهابـا بعيدا.
18873ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ يكفر بعد إيـمانه ذلكَ هُوَ الضّلالُ البَعِيدُ.
يقول تعالـى ذكره: يدعو هذا الـمنقلب علـى وجهه من أن أصابته فتنة آلهة لضرّها فـي الاَخرة له, أقرب وأسرع إلـيه من نفعها. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه: «يدعو مَنْ ضَرّه أقرب من نفعه».
واختلف أهل العربـية فـي موضع «مَنْ», فكان بعض نـحوّيـي البصرة يقول: موضعه نصب ب «يدعو», ويقول: معناه: يدعو لاَلهة ضرّها أقرب من نفعها, ويقول: هو شاذّ لأنه لـم يوجد فـي الكلام: يدعو لزيدا. وكان بعض نـحويّـي الكوفة يقول: اللام من صلة «ما» بعد «مَنْ» كأن معنى الكلام عنده: يدعو من لَضَرّه أقرب من نفعه وحُكي عن العرب سماعا منها: عندي لَـمَا غيرُه خير منه, بـمعنى: عندي ما لغيره خير منه وأعطيتك لـما غيرُه خير منه, بـمعنى: ما لغيره خير منه. وقال: جائز فـي كلّ ما لـم يتبـين فـيه الإعراب الاعتراض بـاللام دون الاسم.
وقال آخرون منهم: جائز أن يكون معنى ذلك: هو الضلال البعيد يدعو فـيكون «يدعو» صلة «الضلال البعيد», وتضمر فـي «يدعو» الهاء ثم تستأنف الكلام بـاللام, فتقول لـمن ضرّه أقرب من نفعه: لبئس الـمولـى كقولك فـي الكلام فـي مذهب الـجزاء: لَـمَا فَعَلْتَ لَهُو خَيْر لك. فعلـى هذا القول «من» فـي موضع رفع بـالهاء فـي قوله «ضَرّه», لأن «مَنْ» إذا كانت جزاء فإنـما يعربها ما بعدها, واللام الثانـية فـي «لبئس الـمولـى» جواب اللام الأولـى. وهذا القول الاَخر علـى مذهب العربـية أصحّ, والأوّل إلـى مذهب أهل التأويـل أقرب.
وقوله: لَبِئْسَ الـمَوْلَـى يقول: لبئس ابن العمّ هذا الذي يعبد الله علـى حرف. وَلَبِئْسَ العَشِيرُ يقول: ولبئس الـخـلـيط الـمعاشر والصاحب, هو, كما:
18874ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلَبِئْسَ العَشِيرُ قال: العشير: هو الـمعاشر الصاحب.
وقد قـيـل: عنـي بـالـمولـى فـي هذا الـموضع: الولـيّ الناصر.
وكان مـجاهد يقول: عُنـي بقوله: لَبِئْسَ الـمَوْلَـى وَلَبِئْسَ العَشِيرُ الوثن.
18875ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى, وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله»: وَلَبِئْسَ العَشِيرُ قال: الوثن.
يقول تعالـى ذكره: إن الله يدخـل الذين صدقوا الله ورسوله, وعملوا بـما أمرهم الله فـي الدنـيا, وانتهوا عما نهاهم عنه فـيها جَنّاتٍ يعنـي بساتـين, تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ يقول: تـجري الأنهار من تـحت أشجارها. إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فـيعطي ما شاء من كرامته أهل طاعته وما شاء من الهوان أهل معصيته.
فقال بعضهم: عُنِـي بها نبـي الله صلى الله عليه وسلم. فتأويـله علـى قوله بعض قائلـي ذلك: من كان من الناس يحسب أن لن ينصر الله مـحمدا فـي الدنـيا والاَخرة, فلـيـمدد بحبل وهو السبب إلـى السماء: يعنـي سماء البـيت, وهو سقـفه, ثم لـيقطع السبب بعد الاختناق به, فلـينظر هل يذهبن اختناقه ذلك وقطعه السبب بعد الاختناق ما يغيظ يقول: هل يذهبن ذلك ما يجد فـي صدره من الغيظ ذكر من قال ذلك:
18876ـ حدثنا نصر بن علـيّ, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي خالد بن قـيس, عن قَتادة: من كان يظن أن لن ينصر الله نبـيه ولا دينه ولا كتابه, فلـيـمدُدْ بسببٍ يقول: بحبل إلـى سماء البـيت فلـيختنق به, فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم, فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ يقول: بحبل إلـى سماء البـيت, ثُمّ لـيْقْطَعْ يقول: ثم لـيختنق ثم لـينظر هل يذهبنّ كيده ما يغيظ.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا معمر, عن قَتادة, بنـحوه.
وقال آخرون مـمن قال الهاء فـي «ينصره» من ذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: السماء التـي ذكرت فـي هذا الـموضع هي السماء الـمعروفة. قالوا: معنى الكلام, ما:
18877ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فقرأ حتـى بلغ: هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ قال: من كان يظن أن لن ينصر الله نبـيه صلى الله عليه وسلم ويكابد هذا الأمر لـيقطعه عنه ومنه, فلـيقطع ذلك من أصله من حيث يأتـيه, فإن أصله فـي السماء, فلـيـمدد بسبب إلـى السماء, لـيقطع عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم الوحي الذي يأتـيه من الله, فإنه لا يكايده حتـى يقطع أصله عنه, فكايد ذلك حتـى قطع أصله عنه. فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ما دخـلهم من ذلك وغاظهم الله به من نصرة النبـيّ صلى الله عليه وسلم وما ينزل علـيه.
وقال آخرون مـمن قال «الهاء» التـي فـي قوله: «يَنْصُرَهُ» من ذكر مـحمد صلى الله عليه وسلم معنى النصر ها هنا الرزق. فعلـى قول هؤلاء تأويـل الكلام: من كان يظنّ أن لن يرزق الله مـحمدا فـي الدنـيا, ولن يعطيه. وذكروا سماعا من العرب: من ينصرنـي نصره الله, بـمعنى: من يعطنـي أعطاه الله. وحكوا أيضا سماعا منهم: نصر الـمطر أرض كذا: إذا جادها وأحياها. واستشهد لذلك ببـيت الفقعسيّ:
18878ـ حدثنـي أبو كريب, قال: حدثنا ابن عطية, قال: حدثنا إسرائيـل, عن أبـي إسحاق, عن التـميـمي, قال: قلت لابن عبـاس: أرأيت قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ ثُمّ لْـيَقْطَعْ فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ؟ قال: من كان يظنّ أن لن ينصر الله مـحمدا, فلـيربط حبلاً فـي سقـف ثم لـيختنق به حتـى يـموت.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عن أبـي إسحاق الهمدانـيّ, عن التـميـمّي, قال: سألت ابن عبـاس, عن قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال: أن لن يرزقه الله فـي الدنـيا والاَخرة, فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ والسبب: الـحَبْل, والسماء: سقـف البـيت فلـيعلق حبلاً فـي سماء البـيت ثم لـيختنق فَلْـيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ هذا الذي صنع ما يجد من الغيظ.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو بن مطرف, عن أبـي إسحاق, عن رجل من بنـي تـميـم, عن ابن عبـاس, مثله.
18879ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي إسحاق, عن التـميـميّ, عن ابن عبـاس: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: سماء البـيت.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي إسحاق, قال: سمعت التـميـميّ, يقول: سألت ابن عبـاس, فذكر مثله.
حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِـي الدّنـيا والاَخِرَةِ... إلـى قوله: ما يَغِيظُ قال: السماء التـي أمر الله أن يـمد إلـيها بسبب سقـف البـيت أمر أن يـمد إلـيه بحبل فـيختنق به, قال: فلـينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ إذا اختنق إن خشي أن لا ينصره الله
وقال آخرون: الهاء فـي «ينصره» من ذكر «مَنْ». وقالوا: معنـي الكلام: من كان يظنّ أن لا يرزقه الله فـي الدنـيا والاَخرة, فلـيـمدد بسبب إلـى سماء البـيت ثم لـيختنق, فلـينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ, أنه لا يرزق ذكر من قال ذلك:
18880ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ قال: يرزقه الله. فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ قال: بحبل إلـى السماءِ سماء ما فوقك. ثمّ لْـيَقْطَعْ لـيختنق, هل يذهبن كيده ذلك خنقه أن لا يرزق.
18881ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: مَنْ كانَ يَظُنّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ يرزقه الله. فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: بحبل إلـى السماء.
قال ابن جُرَيج, عن عطاء الـخراسانـي, عن ابن عبـاس, قال: إلـى السماءِ إلـى سماء البـيت. قال ابن جُرَيج: وقال مـجاهد: ثُمّ لْـيَقْطَعْ قال: لـيختنق, وذلك كيده ما يَغِيظُ قال: ذلك خنقه أن لا يرزقه الله.
18882ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ يعنـي: بحبل. إلـى السماءِ يعنـي: سماء البـيت.
18883ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا أبو رجاء, قال: سُئل عكرِمة عن قوله: فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السّماءِ قال: سماء البـيت. ثُمّ لْـيَثقْطَعْ قال: يختنق.
وأولـى ذلك بـالصواب عندي فـي تأويـل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالـى ذكره ذكر قوما يعبدونه علـى حرف وأنهم يطمئنون بـالدين إن أصابوا خيرا فـي عبـادتهم إياه وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فـيها, ثم أتبع ذلك هذه الاَية فمعلوم أنه إنـما أتبعه إياها توبـيخا لهم علـى ارتدادهم عن الدين أو علـى شكهم فـيه نفـاقهم, استبطاء منهم السعة فـي العيش أو السبوغ فـي الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقـيب الـخبر عن نفـاقهم, فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك: من كان يحسب أن لن يرزق الله مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأمته فـي الدنـيا فـيوسع علـيهم من فضله فـيها, ويرزقهم فـي الاَخرة من سَنـيّ عطاياه وكرامته, استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم, فلـيـمدد بحبل إلـى سماء فوقه: إما سقـف بـيت, أو غيره مـما يعلق به السبب من فوقه, ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فـاستعجل انكشاف ذلك عنه, فلـينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ؟ فإن لـم يذهب ذلك غيظه, حتـى يأتـي الله بـالفرج من عنده فـيذهبه, فكذلك استعجاله نصر الله مـحمدا ودينه لن يُؤَخّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجّل قبل حينه. وقد ذكر أن هذه الاَية نزلت فـي أسد وغطفـان, تبـاطئوا عن الإسلام, وقالوا: نـخاف أن لا يُنصر مـحمد صلى الله عليه وسلم فـينقطع الذي بـيننا وبـين حلفـائنا من الـيهود فلا يـميروننا ولا يُرَوّوننا فقال الله تبـارك وتعالـى لهم: من استعجل من الله نصر مـحمد, فلـيـمدد بسبب إلـى السماء فلـيختنق فلـينظر استعجاله بذلك فـي نفسه هل هو مُذْهِبٌ غيظه؟ فكذلك استعجاله من الله نصر مـحمد غير مقدّم نصره قبل حينه.
واختلف أهل العربـية فـي «ما» التـي فـي قوله: ما يَغِيظُ فقال بعض نـحوّيـي البصرة هي بـمعنى «الذي», وقال: معنى الكلام: هل يذهبنّ كيده الذي يغيظه. قال: وحذفت الهاء لأنها صلة «الذي», لأنه إذا صارا جميعا اسما واحدا كان الـحذف أخفّ. وقال غيره: بل هو مصدر لا حاجة به إلـى الهاء, هل يذهبنّ كيده غيظه.
وقوله: وكَذلكَ أنْزَلْناهُ آياتٍ بَـيّناتٍ يقول تعالـى ذكره: وكما بـيّنت لكم حُجَجي علـى من جحد قدرتـي علـى إحياء من مات من الـخـلق بعد فنائه فأوضحتها أيها الناس, كذلك أنزلنا إلـىء نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بـيّنات, يعنـي دلالات واضحات, يهدين من أراد الله هدايته إلـى الـحقّ. وأنّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ يقول جلّ ثناؤه: ولأن الله يوفق للصواب ولسبـيـل الـحقّ من أراد, أنزل هذا القرآن آيات بـيّنات و «أنّ» فـي موضع نصب.
يقول تعالـى ذكره: إن الفصل بـين هؤلاء الـمنافقـين الذين يعبدون الله علـى حرف, والذين أشركوا بـالله فعبدوا الأوثان والأصنام, والذين هادوا, وهم الـيهود والصابئين
والنصارى والـمـجوس الذي عظموا النـيران وخدموها, وبـين الذين آمنوا بـالله ورسله إلـى الله, وسيفصل بـينهم يوم القـيامة بعدل من القضاء وفصله بـينهم إدخاله النار الأحزاب كلهم والـجنة الـمؤمنـين به وبرسله فذلك هو الفصل من الله بـينهم.
وكان قَتادة يقول فـي ذلك, ما:
18884ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هادُوا وَالصّابئِينَ والنّصَارَى والـمَـجُوسَ وَالّذِينَ أشْرَكُوا قال: الصابئون: قوم يعبدون الـملائكة, ويصلّون للقبلة, ويقرءون الزبور. والـمـجوس: يعبدون الشمس والقمر والنـيران. والذين أشركوا: يعبدون الأوثان. والأديان ستة: خمسة للشيطان, وواحد للرحمن.
وأدخـلت «إنّ» فـي خبر «إنّ» الأولـى لـما ذكرت من الـمعنى, وأن الكلام بـمعنى الـجزاء, كأنه قـيـل: من كان علـى دين من هذه الأديان ففصل ما بـينه وبـين من خالفه علـى الله. والعرب تدخـل أحيانا فـي خبر «إنّ» «إنّ» إذا كان خبر الاسم الأوّل فـي اسم مضاف إلـى ذكره, فتقول: إنّ عبد الله إنّ الـخير عنده لكثـير, كما قال الشاعر.
وكان الفرّاء يقول: من قال هذا لـم يقل: إنك إنك قائم, ولا إن إياك إنه قائم لأن الاسمين قد اختلفـا, فحسن رفض الأوّل, وجعل الثانـي كأنه هو الـمبتدأ, فحسن للاختلاف وقبح للاتفـاق.
وقوله: إنّ اللّهَ عَلـى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يقول: إن الله علـى كل شيء من أعمال هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله جلّ ثناؤه, وغير ذلك من الأشياء كلها شهيد لا يخفـى عنه شيء من ذلك.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: ألـم تر يا مـحمد بقلبك, فتعلـم أن الله يسجد له من فـي السموات من الـملائكة, ومن فـي الأرض من الـخـلق من الـجنّ وغيرهم, والشمس والقمر والنـجوم فـي السماء, والـجبـال, والشجر, والدوابّ فـي الأرض وسجود ذلك ظلاله حين تطلع علـيه الشمس وحين تزول إذا تـحوّل ظلّ كل شيء فهو سجوده. كما:
18885ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: ألَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ والنّـجُومُ والـجِبـالُ والشّجَرُ والدّوَابّ قال: ظلال هذا كله.
وأما سجود الشمس والقمر والنـجوم, فإنه كما:
18886ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ ومـحمد بن جعفر, قالا: حدثنا عوف, قال: سمعت أبـا العالـية الرياحي يقول: ما فـي السماء نـجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب, ثم لا ينصرف حتـى يؤذن له فـيأخذ ذات الـيـمين وزاد مـحمد: حتـى يرجع إلـى مطلعه.
وقوله: وكَثـيرٌ منَ النّاسِ يقول: ويسجد كثـير من بنـي آدم, وهم الـمؤمنون بـالله. كما:
18887ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ قال: الـمؤمنون.
وقوله: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ يقول تعالـى ذكره: وكثـير من بنـي آدم حق علـيه عذاب الله فوجب علـيه بكفره به, وهو مع ذلك يسجد لله ظله. كما:
18888ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ وهو يسجد مع ظله.
فعلـى هذا التأويـل الذي ذكرناه عن مـجاهد, وقع قوله: وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ بـالعطف علـى قوله: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ ويكون داخلاً فـي عداد من وصفه الله بـالسجود له, ويكون قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ من صلة «كثـير», ولو كان «الكثـير» الثانـي مـمن لـم يدخـل فـي عداد من وصفه بـالسجود كان مرفوعا بـالعائد من ذكره فـي قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ وكان معنى الكلام حينئذٍ: وكثـير أتـى السجود, لأن قوله: حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ يدلّ علـى معصية الله وإبـائه السجود, فـاستـحقّ بذلك العذاب.
يقول تعالـى ذكره: ومن يهنه الله من خـلقه فَبُشْقِه, فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بـالسعادة يسعده بها لأن الأمور كلها بـيد الله, يوفّق من يشاء لطاعته ويخذل من يشاء, ويُشقـي من أراد ويسعد من أحبّ.
وقوله: إنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ يقول تعالـى ذكره: إن الله يفعل فـي خـلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته وإكرام من أراد كرامته لأن الـخـلق خـلقه والأمر أمره. لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه: «فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ» بـمعنى: فما من إكرام, وذلك قراءة لا أستـجيز القراءة بها لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافه.
اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بهذين الـخصمين اللذين ذكرهما الله, فقال بعضهم: أحد الفريقـين: أهل الإيـمان, والفريق الاَخر: عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبـارزوا يوم بدر. ذكر من قال ذلك:
18889ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا أبو هاشم عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـادة قال: سمعت أبـا ذرّ يُقْسم قَسَما أن هذه الاَية: هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ نزلت فـي الذين بـارزوا يوم بدر: حمزة وعلـيّ وعبـيدة بن الـحارث, وعتبة وشيبة ابنـي ربـيعة والولـيد بن عتبة. قال: وقال علـيّ: إنـي لأوّل أو من أوّل من يجثو للـخصومة يوم القـيامة بـين يدي الله تبـارك وتعالـى.
حدثنا علـيّ بن سهل, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي هاشم, عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـاد, قال: سمعت أبـا ذرّ يقسم بـالله قسما لنزلت هذه الاَية فـي ستة من قريش: حمزة بن عبد الـمطلب وعلـيّ بن أبـي طالب وعبـيدة بن الـحارث رضي الله عنهم, وعتبة بن ربـيعة وشيبة بن ربـيعة والولـيد بن عتبة هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فـي رَبّهِمْ... إلـى آخر الاَية: إنّ اللّهَ يُدْخِـلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعملُوا الصّالـحاتِ... إلـى آخر الاَية.
حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي هاشم, عن أبـي مـجاز, عن قـيس بن عبـاد, قال: سمعت أبـا ذرّ يقسم, ثم ذكر نـحوه.
18890ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن مـحبب, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور بن الـمعتـمر, عن هلال بن يساف, قال: نزلت هذه الاَية فـي الذين تبـارزوا يوم بدر: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ.
18891ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة بن الفضل, قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق, عن بعض أصحابه, عن عطاء بن يسار, قال: نزلت هؤلاء الاَيات: هَذَان خَصْمان اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ فـي الذين تبـارزوا يوم بدر: حمزة وعلـي وعبـيدة بن الـحارث, وعتبة بن ربـيعة وشيبة بن ربـيعة والولـيد بن عتبة. إلـى قوله: وَهُدُوا إلـى صِرَاطِ الـحَمِيدِ.
18892ـ قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن أبـي هاشم, عن أبـي مُـجَلّز, عن قـيس بن عبـاد, قال: والله لأُنزلت هذه الاَية: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ فـي الذين خرج بعضهم إلـى بعض يوم بدر: حمزة وعلـيّ وعُبـيدة رحمة الله علـيهم, وشيبة وعتبة والولـيد بن عتبة.
وقال آخرون مـمن قال أحد الفرقـين فريق الإيـمان: بل الفريق الاَخر أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك:
18893ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: هم أهل الكتاب, قالوا للـمؤمنـين: نـحن أولـى بـالله, وأقدم منكم كتابـا, ونبـينا قبل نبـيكم. وقال الـمؤمنون: نـحن أحقّ بـالله, آمنا بـمـحمد صلى الله عليه وسلم, وآمنا بنبـيكم وبـما أنزل الله من كتاب, فأنتـم تعرفون كتابنا ونبـينا, ثم تركتـموه وكفرتـم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم فـي ربهم.
وقال آخرون منهم: بل الفريق الاَخر الكفـار كلهم من أيّ ملة كانوا. ذكر من قال ذلك:
18894ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن مـجاهد وعطاء بن أبـي رَياح وأبـي قَزَعة, عن الـحسين, قال: هم الكافرون والـمؤمنون اختصموا فـي ربهم.
18895ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: مثل الكافر والـمؤمن قال ابن جُرَيج: خصومتهم التـي اختصموا فـي ربهم, خصومتهم فـي الدنـيا من أهل كل دين, يرون أنهم أولـى بـالله من غيرهم.
18896ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, قال: كان عاصم والكلبـي يقولان جميعا فـي: هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل, قال: جعل الشرك ملة.
18897ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: مثل الـمؤمن والكافر اختصامهما فـي البعث.
وقال آخرون: الـخصمان اللذان ذكرهما الله فـي هذه الاَية: الـجنة والنار. ذكر من قال ذلك:
18898ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عكرِمة: هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبّهِمْ قال: هما الـجنة والنار اختصمتا, فقالت النار: خـلقنـي الله لعقوبته وقالت الـجنة: خـلقنـي الله لرحمته فقد قصّ الله علـيك من خبرهما ما تسمع.
وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب وأشبهها بتأويـل الاَية, قول من قال: عُنـي بـالـخصمين جميع الكفـار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع الـمؤمنـين. وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب, لأنه تعالـى ذكره ذكر قبل ذلك صنفـين من خـلقه: أحدهما أهل طاعة له بـالسجود له, والاَخر: أهل معصية له, قد حقّ علـيه العذاب, فقال: ألَـمْ تَرَ أنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِـي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ والشّمْسُ والقَمَرُ ثم قال: وكَثِـيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِـيرٌ حَقّ عَلَـيْهِ العَذَابُ, ثم أتبع ذلك صفة الصنفـين كلـيهما وما هو فـاعل بهما, فقال: فـالذين كَفرُوا قُطّعتْ لهُمْ ثـيابٌ منْ نارٍ وقال الله: إنّ اللّهَ يُدْخِـلُ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِـحاتِ جَنّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ فكان بـيّنا بذلك أن ما بـين ذلك خبر عنهما.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فـيـما رُوي عن أبـي ذرّ فـي قوله: إنّ ذَلكَ نزل فـي الذين بـارزوا يوم بدر؟ قـيـل: ذلك إن شاء الله كما رُوي عنه ولكن الاَية قد تنزل بسبب من الأسبـاب, ثم تكون عامة فـي كل ما كان نظير ذلك السبب. وهذه من تلك, وذلك أن الذين تبـارزوا إنـما كان أحد الفريقـين أهل شرك وكفر بـالله, والاَخر أهل إيـمان بـالله وطاعة له, فكل كافر فـي حكم فريق الشرك منهما فـي أنه لأهل الإيـمان خصم, وكذلك كل مؤمن فـي حكم فريق الإيـمان منهما فـي أنه لأهل الشرك خصم.
فتأويـل الكلام: هذان خصمان اختصموا فـي دين ربهم, واختصامهم فـي ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الاَخر ومـحاربته إياه علـى دينه.
وقوله: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ يقول تعالـى ذكره: فأما الكافر بـالله منهما فإنه يقطع له قميص من نـحاس من نار. كما:
18899ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ قال: الكافر قطعت له ثـياب من نار, والـمؤمن يدخـله الله جنات تـجري من تـحتها الأنهار.
18900ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد, فـي قوله: فـالّذِينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثِـيابٌ مِنْ نارٍ قال: ثـياب من نـحاس, ولـيس شيء من الاَنـية أحمى وأشد حرّا منه.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: الكفـار قطعت لهم ثـياب من نار, والـمؤمن يدخـل جنات تـجري من تـحتها الأنهار.
18901ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا إبراهيـم بن إسحاق الطَالقانـي, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, عن سعيد بن زيد, عن أبـي السّمْـح, عن ابن حجيرة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم, قال: «إنّ الـحَمِيـمَ لَـيُصَبّ عَلـى رُؤُسِهِمْ, فَـيَنْفُذُ الـجُمْـجَمَةَ حتـى يَخْـلُصَ إلـى جَوْفِهِ, فَـيَسْلُتَ ما فِـي جَوْفِهِ حتـى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ, وَهِيَ الصّهْرُ, ثُمّ يُعادُ كَما كانَ».
حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا يعمر بن بشر, قال: حدثنا ابن الـمبـارك, قال: أخبرنا سعيد بن زيد, عن أبـي السمـح, عن ابن حجيرة, عن أبـي هريرة, عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بـمثله, إلا أنه قال: «فَـيَنْفُذُ الـجُمْـجُمَةَ حَى يَخْـلُصَ إلـى جَوْفِهِ فَـيَسْلُتَ مَا فـي جَوْفِهِ».
وكان بعضهم يزعم أن قوله: ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ من الـمؤخّر الذي معناه التقديـم, ويقول: وجه الكلام: فـالذين كفروا قطعت لهم ثـياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الـحميـم ويقول: إنـما وجب أن يكون ذلك كذلك, لأن الـملك يضربه بـالـمقمع من الـحديد حتـى يثقب رأسه, ثم يصبّ فـيه الـحميـم الذي انتهى حرّه فـيقطع بطنه. والـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا, يدلّ علـى خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الـحميـم إذا صبّ علـى رؤسهم نفذ الـجمـجمة حتـى يخـلص إلـى أجوافهم, وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل, ولو كانت الـمقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الـحميـم علـيها, لـم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الـحَميـمَ يَنْفُذُ الـجُمْـجُمَةَ» معنى ولكن الأمر فـي ذلك بخلاف ما قال هذا القائل.
وقوله: يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهِمْ وَالـجُلُودُ يقول: يذاب بـالـحميـم الذي يصبّ من فوق رؤسهم ما فـي بطونهم من الشحوم, وتشوى جلودهم منه فتتساقط. والصهر: هو الإذابة, يقال منه: صهرت الألـية بـالنار: إذا أذبتها أصهرها صهرا ومنه قول الشاعر.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18902ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: يُصْهَرُ بِهِ قال: يُذاب إذابة.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
قال ابن جُرَيج يُصْهَرُ بِهِ: قال: ما قطع لهم من العذاب.
18903ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهِمْ قال: يُذاب به ما فـي بطونهم.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
18904ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـالّذينَ كَفَرُوا قُطّعَتْ لَهُمْ ثـيابٌ منْ نارٍ... إلـى قوله: يُصْهَرُ بهِ ما فـي بُطُونِهِمْ والـجُلُودُ يقول: يسقون ما إذا دخـل بطونهم أذابها والـجلود مع البطون.
18905ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر وهارون بن عنترة, عن سعيد بن جبـير, قال: قال هارون: إذا عام أهل النار وقال جعفرٍ: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم, فـيأكلون منها, فـاختلست جلود وجوههم, فلو أن مارّا مرّ بهم يعرفهم يعرف جلود وجوههم فـيها, ثم يصبّ علـيهم العطش, فـيستغيثوا, فـيُغاثوا بـماء كالـمُهل, وهو الذي قد انتهى حرّه, فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لـحوم وجوههم التـي قد سقطت عنها الـجلود و يُصْهَرُ بِهِ ما فِـي بُطُونِهمْ يعنـي أمعاءهم, وتساقط جلودهم, ثم يضربون بـمقامع من حديد, فـيسقط كل عضو علـى حاله, يدعون بـالويـل والثبور.
وقوله: ولَهُمْ مَقامعُ مِنْ حَدِيدٍ تضرب رؤسهم بها الـخزنة إذا أرادوا الـخروج من النار حتـى ترجعهم إلـيها.
وقوله: كُلّـما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِـيها يقول: كلـما أراد هؤلاء الكفـار الذين وصف الله صفتهم الـخروج من النار مـما نالهم من الغمّ والكرب, ردّوا إلـيها. كما:
18906ـ حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا جعفر بن عون, قال: أخبرنا الأعمش, عن أبـي ظبـيان, قال: النار سوداء مظلـمة لا يضيء لهبها ولا جمرها, ثم قرأ: كُلّـما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِـيها وقد ذكر أنهم يحاولون الـخروج من النار حين تـجيش جهنـم فتلقـي من فـيها إلـى أعلـى أبوابها, فـيريدون الـخروج فتعيدهم الـخزان فـيها بـالـمقامع, ويقولون لهم إذا ضربوهم بـالـمقامع: ذُوقُوا عَذَابَ الـحَرِيق.
وعنـي بقوله: ذُوقُوا عَذَابَ الـخَرِيق ويقال لهم ذوقوا عذاب النار, وقـيـل عذاب الـحريق والـمعنى: الـمـحرق, كما قـيـل: العذاب الألـيـم, بـمعنى: الـمؤلـم.
يقول تعالـى ذكره: وأما الذين آمنوا بـالله بـالله ورسوله فأطاعوهما بـما أمرهم الله به من صالـح الأعمال, فإن الله يُدخـلهم جنات عدن تـجري من تـحتها الأنهار, فـيحلّـيهم فـيها من أساور من ذهب ولؤلؤا.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وَلُؤْلُؤا فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل الكوفة نصبـا مع التـي فـي الـملائكة, بـمعنى: يحلون فـيها أساور من ذهب ولؤلؤا, عطفـا بـاللؤلؤ علـى موضع الأساور لأن الأساور وإن كانت مخفوضة من أجل دخول «مِنْ» فـيها, فإنها بـمعنى النصب قالوا: وهي تعدّ فـي خط الـمصحف بـالألف, فذلك دلـيـل علـى صحة القراءة بـالنصب فـيه. وقرأت ذلك عامة قرّاء العراق والـمصرين: «وَلُؤْلُؤٍ» خفضا عطفـا علـى إعراب الأساور الظاهر.
واختلف الذي قرءوا ذلك كذلك فـي وجه إثبـات الألف فـيه, فكان أبو عمرو بن العلاء فـيـما ذكر لـي عنه يقول: أثبتت فـيه كما أثبتت فـي «قالوا» و «كالوا». وكان الكسائي يقول: أثبتوها فـيه للهمزة, لأن الهمزة حرف من الـحروف.
والقول فـي ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, متفقتا الـمعنى صحيحتا الـمخرج فـي العربـية فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.
وقوله: وَلِبـاسُهُمْ فـيها حَرِيرٌ يقول: ولبوسهم التـي تلـي أبشارهم فـيها ثـياب حرير. وقوله: وَهُدُوا إلـى الطّيّبِ مِنَ القَوْلِ يقول تعالـى ذكره: وهداهم ربهم فـي الدنـيا إلـى شهادة أن لا إله إلا الله. كما:
18907ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: ابن زيد, فـي قوله: وَهُدُوا إلـى الطّيبِ منَ القَوْلِ قال: هدوا إلـى الكلام الطيب: لا إله إلا الله, والله أكبر, والـحمد لله قال الله: إلَـيْهِ يَصْعَدُ الكَلـمُ الطّيّبُ وَالعَمَلُ الصّالِـحُ يَرْفَعُهُ.
18908ـ حدثنا علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: وَهُدُوا إلـى الطّيّبِ مِنَ القَوْلِ قال: ألهموا.
وقوله: وَهُدُوا إلـى صِراطِ الـحَمِيدِ يقول جلّ ثناؤه: وهداهم ربهم فـي الدنـيا إلـى طريق الربّ الـحميد, وطريقه: دينه دين الإسلام الذي شرعه لـخـلقه وأمرهم أن يسلكوه والـحميد: فعيـل, صرّف من مفعول إلـيه, ومعناه: أنه مـحمود عند أولـيائه من خـلقه, ثم صرّف من مـحمود إلـى حميد.
يقول تعالـى ذكره: إن الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ويَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ الله يقول: ويـمنعون الناس عن دين الله أن يدخـلوا فـيه, وعن الـمسجد الـحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لـم يخصص منها بعضا دون بعض سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ والبـادِ يقول: معتدل فـي الواجب علـيه من تعظيـم حرمة الـمسجد الـحرام, وقضاء نسكه به, والنزول فـيه حيث شاء العاكف فـيه, وهو الـمقـيـم به والبـاد: وهو الـمنتاب إلـيه من غيره.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك, فقال بعضهم: معناه: سواء العاكف فـيه وهو الـمقـيـم فـيه والبـاد, فـي أنه لـيس أحدهما بأحقّ بـالـمنزل فـيه من الاَخر. ذكر من قال ذلك:
18909ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن يزيد بن أبـي زياد, عن ابن سابط, قال: كان الـحجاج إذا قدموا مكة لـم يكن أحد من أهل مكة بأحق بـمنزله منهم, وكان الرجل إذا وجد سعة نزل. ففشا فـيهم السرق, وكل إنسان يسرق من ناحيته, فـاصطنع رجل بـابـا, فأرسل إلـيه عمر: أتـخذت بـابـا من حجاج بـيت الله؟ فقال: لا, إنـما جعلته لـيحرز متاعهم. وهو قوله: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ والبْـادِ قال: البـاد فـيه كالـمقـيـم, لـيس أحد أحقّ بـمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلـى منزل.
18910ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن أبـي حصين, قال: قلت لسعيد بن جُبـير: أعتكف بـمكة؟ قال: أنت عاكف. وقرأ: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ والبْـادِ.
18911ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عنبسة, عمن ذكره, عن أبـي صالـح: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ والبْـادِ العاكف: أهله, والبـاد: الـمنتاب فـي الـمنزل سواء.
18912ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ والبْـادِ يقول: ينزل أهل مكة وغيرهم فـي الـمسجد الـحرام.
18913ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ والبْـادِ قال: العاكف فـيه: الـمقـيـم بـمكة والبـاد: الذي يأتـيه هم فـي سواء فـي البـيوت.
18914ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: سَواءً العاكِفُ فِـيهِ وَالبـادِ سواء فـيه أهله وغير أهله.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
18915ـ حدثنا ابن حميد, قال حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد, فـي قوله: سَوَاءً العاكفُ فِـيهِ والبْـادِ قال: أهل مكة وغيرهم فـي الـمنازل سواء.
وقال آخرون فـي ذلك نـحو الذي قلنا فـيه. ذكر من قال ذلك:
18916ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ قال: الساكن, والبَـادِ الـجانب سواء حقّ الله علـيهما فـيه.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد فـي قوله: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ قال: الساكن والبـاد: الـجانب.
18917ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تـميـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن مـجاهد وعطاء: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ قالا: من أهله, والبَـادِ الذي يأتونه من غير أهله هما فـي حرمته سواء.
وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي ذلك لأن الله تعالـى ذكره ذكر فـي أوّل الاَية صدّ من كفر به من أراد من الـمؤمنـين قضاء نسكه فـي الـحرم عن الـمسجد الـحرام, فقال: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ ثم ذكر جلّ ثناؤه صفة الـمسجد الـحرام, فقال: الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ فأخبر جلّ ثناؤه أنه جعله للناس كلهم, فـالكافرون به يـمنعون من أراده من الـمؤمنـين به عنه. ثم قال: سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ وَالبْـادِ فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فـيه والبـاد, إنـما هو فـي الـمعنى الذي ابتدأ الله الـخبر عن الكفـار أنهم صدّوا عنه الـمؤمنـين به وذلك لا شكّ طوافهم وقضاء مناسكهم به والـمقام, لا الـخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم. وقـيـل: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ فعطف ب «يصدّون» وهو مستقبل
علـى «كفروا» وهو ماض, لأن الصدّ بـمعنى الصفة لهم والدوام. وإذا كان ذلك معنى الكلام, لـم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبـال, ولا يكون بلفظ الـماضي. وإذا كان ذلك كذلك, فمعنى الكلام: إن الذين كفروا من صفتهم الصدّ عن سبـيـل الله, وذلك نظير قول الله: الّذِين آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوُبهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ. وأما قوله: سَوَاءٌ العاكِفُ فِـيهِ فإن قرّاء الأمصار علـى رفع «سواءٌ» ب «العاكف, و«العاكف» به, وإعمال «جعلناه» فـي الهاء الـمتصلة به, واللام التـي فـي قوله «للناس», ثم استأنف الكلام ب «سواء» وكذلك تفعل العرب ب «سواء» إذا جاءت بعد حرف قد تـمّ الكلام به, فتقول: مررت برجل سواء عنده الـخير والشرّ, وقد يجوز فـي ذلك الـخفض. وإنـما يختار الرفع فـي ذلك لأن «سواء» فـي مذهب واحد عندهم, فكأنهم قالوا: مررت برجل واحدٍ عنده الـخير والشرّ. وأما من خفضه فإنه يوجهه إلـى معتدل عنده الـخير والشرّ, ومن قال ذلك فـي سواء فـاستأنف به ورفع لـم يقله فـي «معتدل», لأن «معتدل» فعل مصرّح, وسواء مصدر فـاخراجهم إياه إلـى الفعل كاخراجهم حسب فـي قولهم: مررت برجل حسبك من رجل إلـى الفعل. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه قرأه: سواءً نصبـا علـى إعمال «جعلناه» فـيه, وذلك وإن كان له وجه فـي العربـية, فقراءة لا أستـجيز القراءة بها لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافه.
وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلْـحادٍ بِظْلُـمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِـيـمٍ يقول تعالـى ذكره: ومن يرد فـيه إلـحادا بظلـم نذقه من عذاب ألـيـم, وهو أن يـميـل فـي البـيت الـحرام بظلـم. وأدخـلت البـاء فـي قوله «بإلـحاد» والـمعنى فـيه ما قلت, كما أدخـلت فـي قوله: تنبت بـالدهن والـمعنى: تنبت الدهن, كما قال الشاعر:
بـمعنى: ضمنت رزق عيالنا أرماحنا فـي قول بعض نـحويـي البصريـين. وأما بعض نـحويـي الكوفـيـين فإنه كان يقول: أدخـلت الـياء فـيه, لأن تأويـله: ومن يرد بأن يـلـحد فـيه بظلـم. وكان يقول: دخول البـاء فـي «أن» أسهل منه فـي «إلـحاد» وما أشبهه, لأن «أن» تضمر الـخوافض معها كثـيرا وتكون كالشرط, فـاحتـملت دخول الـخافض وخروجه لأن الإعراب لا يتبـين فـيها, وقال فـي الـمصادر: يتبـين الرفع والـخفض فـيها, قال: وأنشدنـي أبو الـجَرّاح:
فَلَـمّا رَجَتْ بـالشّرْبِ هَزّ لها العَصَاشَحِيحٌ لهُ عِنْدَ الأَداءِ نَهِيـمُ
وقال امرؤ القـيس:
ألا هَلْ أتاها والـحَوَادِثُ جمّةٌبأنّ أمرأ القَـيْسِ بْنَ تَـمْلِكَ بَـيْقَرَا
قال: فأدخـل البـاء علـى «أن» وهي فـي موضع رفع كما أدخـلها علـى «إلـحاد» وهو فـي موضع نصب. قال: وقد أدخـلوا البـاء علـى ما إذا أرادوا بها الـمصدر, كما قال الشاعر:
وقال: وهو فـي «ما» أقلّ منه فـي «أن», لأن «أن» أقلّ شبها بـالأسماء من «ما». قال: وسمعت أعرابـيّا من ربـيعة, وسألته عن شيء, فقال: أرجو بذاك يريد أرجو ذاك.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى الظلـم الذي من أراد الإلـحاد به فـي الـمسجد الـحرام أذاقه الله من العذاب الألـيـم, فقال بعضهم: ذلك هو الشرك بـالله وعبـادة غيره به أي بـالبـيت ذكر من قال ذلك:
18918ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بـالْـحاد بِظُلْـمٍ يقول: بشرك.
18919ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة, عن مـجاهد, فـي قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلْـحاد بِظُلْـمٍ هو أن يعبد فـيه غير الله.
18920ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, قال: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلْـحادٍ بِظُلْـمٍ قال: هو الشرك, من أشرك فـي بـيت الله عذّبه الله.
18921ـ حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن قَتادة, مثله وقال آخرون: هو استـحلال الـحرام فـيه أو ركوبه. ذكر من قال ذلك:
18922ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلْـحادٍ بِظُلْـمٍ نُذقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِـيـمٍ يعنـي أن تستـحلّ من الـحرام ما حرّم الله علـيك من لسان أو قتل, فتظلـم من لا يظلـمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب ألـيـم.
18923ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلْـحادٍ بِظُلْـمٍ قال: يعمل فـيه عملاً سيئا.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد مثله.
18924ـ حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ قالا: حدثنا الـمـحاربـيّ, عن سفـيان عن السّديّ, عن مرّة عن عن عبد الله, قال: ما من رجل يهمّ بسيئة فتكتب علـيه, ولو أن رجلاً بعد أن بـين همّ أن يقتل رجلاً بهذا البـيت, لأذاقه الله من العذاب الألـيـم.
حدثنا مـجاهد بن موسى, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا شعبة, عن السديّ, عن مرّة, عن عبد الله قال مـجاهد, قال يزيد, قال لنا شعبة, رفعه, وأنا لا أرفعه لك فـي قول الله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلْـحاد بِظُلْـم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِـيـم قال: «لو أن رجلاً همّ فـيه بسيئة وهو بعدن أَبْـيَنَ, لأذاقه الله عذابـا ألـيـما».
18925ـ حدثنا الفضل بن الصبـاح, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل, عن أبـيه, عن الضحاك بن مزاحم, فـي قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلـحْاد بِظُلْـم قال: إن الرجل لـيهمّ بـالـخطيئة بـمكة وهو فـي بلد آخر ولـم يعملها, فتكتب علـيه.
18926ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قول الله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلـحْادٍ بِظُلْـمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِـيـم قال: الإلـحاد: الظلـم فـي الـحرم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك الظلـم: استـحلال الـحرم متعمدا. ذكر من قال ذلك:
18927ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس: بإلـحْادٍ بِظُلـمٍ قال: الذي يريد استـحلاله متعمدا, ويقال الشرك.
وقال آخرون: بل ذلك احتكار الطعام بـمكة. ذكر من قال ذلك:
18928ـ حدثنـي هارون بن إدريس الأصمّ, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي, عن أشعث, عن حبـيب بن أبـي ثابت فـي قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بـالـحْادٍ بِظُلْـمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِـيـمٍ قال: هم الـمـحتكرون الطعام بـمكة.
وقال آخرون: بل ذلك كل ما كان منهيّا عنه من الفعل, حتـى قول القائل: لا والله, وبلـى والله. ذكر من قال ذلك:
18929ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور, عن مـجاهد, عن عبد الله بن عمرو, قال: كان له فسطاطان: أحدهما فـي الـحلّ, والاَخر فـي الـحرم, فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم فـي الـحلّ, فسئل عن ذلك, فقال: كنا نـحدّث أن من الإلـحاد فـيه أن يقول الرجل: كلا والله, وبلـى والله.
18930ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يعقوب, عن أبـي ربعي, عن الأعمش, قال: كان عبد الله بن عمرو يقول: لا والله وبلـى والله من الإلـحاد فـيه.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال التـي ذكرناها فـي تأويـل ذلك بـالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عبـاس, من أنه معنـيّ بـالظلـم فـي هذا الـموضع كلّ معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلـحْادٍ بِظُلْـمٍ ولـم يخصص به ظلـم دون ظلـم فـي خبر ولا عقل, فهو علـى عمومه. فإذا كان ذلك كذلك, فتأويـل الكلام: ومن يرد فـي الـمسجد الـحرام بأن يـميـل بظلـم, فـيعصى الله فـيه, نذقه يوم القـيامة من عذاب موجع له. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك: «وَمَنْ يَرِدْ فِـيهِ» بفتـح الـياء, بـمعنى: ومن يَرِدْه بإلـحاد من وَرَدْت الـمكان أَرِدْه. وذلك قراءة لا تـجوز القراءة عندي بها لـخلافها ما علـيه الـحجة من القرّاء مـجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أنّ «يَرِدْ» فعل واقع, يقال منه: هو يَرِد مكان كذا أو بلدة كذا غدا, ولا يقال: يَرِدُ فـي مكان كذا. وقد زعم بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب أن طَيّئا تقول: رغبت فـيك, تريد: رغبت بك, وذكر أن بعضهم أنشده بـيتا:
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم, مُعْلِـمَه عظيـم ما ركب من قومه قريش خاصة دون غيرهم من سائر خـلقه بعبـادتهم فـي حرمه, والبـيت الذي أمر إبراهيـم خـلـيـله صلى الله عليه وسلم ببنائه وتطهيره من الاَفـات والرّيَب والشرك: واذكر يا مـحمد كيف ابتدأنا هذا البـيت الذي يعبد قومك فـيه غيري, إذ بوأنا لـخـلـيـلنا إبراهيـم, يعنـي بقوله: «بوأنا»: وطّأنا له مكان البـيت. كما:
18931ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور عن معمر, عن قَتادة, قوله: وَإذْ بَوّأْنْا لإِبْرَاهِيـمَ مَكانَ البَـيْتِ قال: وضع الله البـيت مع آدم صلى الله عليه وسلم حين أهبط آدم إلـى الأرض وكان مهبطه بأرض الهند, وكان رأسه فـي السماء ورجلاه فـي الأرض, فكانت الـملائكة تهابه فنقص إلـى ستـين ذراعا. وإن آدم لـمّا فَقَد أصوات الـملائكة وتسبـيحهم, شكا ذلك إلـى الله, فقال الله: يا آدم إنـي قد أهبطت لك بـيتا يُطاف به كما يطاف حول عرشي, ويُصلّـى عنده كما يصلّـى حول عرشي, فـانطَلِقْ إلـيه فخرج إلـيه, ومدّ له فـي خطوه, فكان بـين كل خطوتـين مفـازة, فلـم تزل تلك الـمفـاوز علـى ذلك حتـى أتـى آدم البـيت, فطاف به ومن بعده من الأنبـياء.
18932ـ حدثنـي موسى, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسبـاط, عن السديّ, قال: لـما عهد الله إلـى إبراهيـم وإسماعيـل أن طهرا بـيتـي للطائفـين, انطلق إبراهيـم حتـى أتـى مكة, فقام هو وإسماعيـل, وأخذا الـمعاول, لا يدريان أين البـيت, فبعث الله ريحا يقال لها ريح الـخَجُوج, لها جناحان ورأس فـي صورة حية, فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البـيت الأوّل, واتبعاها بـالـمعاول يحفران, حتـى وضعا الأساس فذلك حين يقول: وَإذْ بَوّأْنا لإِبْرَاهِيـمَ مَكانَ البَـيْتِ.
ويعنـي بـالبـيت: الكعبة, أنْ لا تُشْرِكْ بِـي شَيْئا فـي عبـادتك إياي, وَطَهّرْ بَـيْتِـيَ الذي بنـيته من عبـادة الأوثان. كما:
18933ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبـي عن سفـيان عن لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: وَطَهّرْ بَـيْتِـيَ قال: من الشرك.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, عن عبـيد بن عمير, قال: من الاَفـات والرّيب.
18934ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: طَهّرَا بَـيْتِـيَ قال: من الشرك وعبـادة الأوثان.
وقوله: للطّائِفِـينَ يعنـي للطائفـين به. والقَائِمِينَ بـمعنى الـمصلـين الذين هم قـيام فـي صلاتهم. كما:
18935ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عطاء فـي قوله: وَطَهّرْ بَـيْتِـيَ للطّائِفِـينَ والقائِمِينَ قال: القائمون فـي الصلاة.
18936ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة: والقَائِمِينَ قال: القائمون الـمصلون.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, مثله.
18937ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: والقائمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ قال: القائم والراكع والساجد هو الـمصلـي, والطائف هو الذي يطوف به. وقوله: وَالرّكّعِ السّجُودِ يقول: والركع السجود فـي صلاتهم حول البـيت.
يقول تعالـى ذكره: عهدنا إلـيه أيضا أن أذّن فـي الناس بـالـحجّ يعنـي بقوله: وأذّنْ أعلـم وناد فـي الناس أن حجوا أيها الناس بـيت الله الـحرام. يَأْتُوكَ رِجالاً يقول: فإن
الناس يأتون البـيت الذي تأمرهم بحجه مشاة علـى أرجلهم, وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ يقول: وركبـانا علـى كلّ ضامر, وهي الإبل الـمهازيـل. يَأْتِـينَ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ يقول: تأتـي هذه الضوامر من كلّ فجّ عميق يقول: من كلّ طريق ومكان ومسلك بعيد. وقـيـل: «يأتـين», فجمع لأنه أريد بكل ضامر: النوق. ومعنى الكلّ: الـجمع, فلذلك قـيـل: «يأتـين». وقد زعم الفراء أنه قلـيـل فـي كلام العرب: مررت علـى كلّ رجل قائمين قال: وهو صواب, وقول الله: وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ يَأَتـينَ ينبىء عن صحة جوازه. وذُكر أن إبراهيـم صلوات الله علـيه لـما أمره الله بـالتأذين بـالـحجّ, قام علـى مقامه فنادى: يا أيها الناس إن الله كتب علـيكم الـحجّ فحجوا بـيته العتـيق.
وقد اختُلف فـي صفة تأذين إبراهيـم بذلك. فقال بعضهم: نادي بذلك, كما:
18938ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن قابوس, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قال: لـما فرغ إبراهيـم من بناء البـيت قـيـل له: أذّنْ فِـي النّاسَ بـالـحَجّ قال: ربّ وَما يبلغ صوتـي؟ قال: أذّنْ وعلـيّ البلاغ فنادى إبراهيـم: أيها الناس كُتب علـيكم الـحجّ إلـى البـيت العتـيق فحجوا قال: فسمعه ما بـين السماء والأرض, أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يـلبّون؟
18939ـ حدثنا الـحسن بن عرفة, قال: حدثنا مـحمد بن فضيـل بن غزوان الضبـي, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما بنى إبراهيـم البـيت أوحى الله إلـيه, أن أذّن فـي الناس بـالـحجّ قال: فقال إبراهيـم: ألا إن ربكم قد اتـخذ بـيتا, وأمركم أن تـحجوه, فـاستـجاب له ما سمعه من شيء من حجر وشجر وأكمة أو تراب أو شيء: لبّـيك اللهمّ لبّـيك
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا يحيى بن واضح, قال: حدثنا ابن واقد, عن أبـي الزبـير, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس:, قوله: وأذّنْ فِـي النّاسَ بـالـحَجّ قال: قام إبراهيـم خـلـيـل الله علـى الـحجر, فنادى: يا أيها الناس كُتب علـيكم الـحجّ, فأسمع من فـي أصلاب الرجال وأرحام النساء, فأجابه من آمن مـمن سبق فـي علـم الله أن يحجّ إلـى يوم القـيامة: لبّـيك اللهمّ لبّـيك
18940ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جُبـير: وأذّنْ فِـي النّاسَ بـالـحَجّ يَأْتُوكَ رِجالاً قال: وقرت فـي قلب كلّ ذكر وأنثى.
18941ـ حدثنـي ابن حميد, قال: حدثنا حكام عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد بن جُبـير, قال: لـما فرغ إبراهيـم من بناء البـيت, أوحى الله إلـيه, أن أذّنْ فـي الناس بـالـحجّ قال: فخرج فنادى فـي الناس: يا أيها الناس إن ربكم قد اتـخذ بـيتا فحجوه فلـم يسمعه يومئذٍ من إنس, ولا جنّ, ولا شجر, ولا أكمة, ولا تراب, ولا جبل, ولا ماء, ولا شيء إلا قال: لبّـيك اللهم لبّـيك
18942ـ قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: قام إبراهيـم علـى الـمقام حين أمر أن يؤذّن فـي الناس بـالـحجّ.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: وأَذّنْ فِـي النّاسِ بـالْـحَجّ قال: قام إبراهيـم علـى مقامه, فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم فقالوا: لبّـيك اللهمّ لبـيك فمن حَجّ الـيوم فهو مـمن أجاب إبراهيـم يومئذٍ.
18943ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن داود, عن عكرمة بن خالد الـمخزومي, قال: لـما فرغ إبراهيـم علـيه السلام من بناء البـيت, قام علـى الـمقام, فنادى نداء سمعه أهل الأرض: إن ربكم قد بنى لكم بـيتا فحجّوه قال داود: فأرجوا من حجّ الـيوم من إجابة إبراهيـم علـيه السلام.
18944ـ حدثنـي مـحمد بن سنان القزاز, قال: حدثنا حجاج, قال: حدثنا حماد, عن أبـي عاصم الغَنَوِيّ, عن أبـي الطفـيـل, قال: قال ابن عبـاس: هل تدري كيف كانت التلبـية؟ قلت: وكيف كانت التلبـية؟ قال: إن إبراهيـم لـما أمر أن يؤذّن فـي الناس بـالـحجّ, خفضت له الـجبـال رؤسها, ورُفِعَت القُرى, فأذّن فـي الناس.
18945ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد, قوله: وأَذّنْ فِـي النّاسِ بـالـحَجّ قال إبراهيـم: كيف أقول يا ربّ؟ قال: قل: يا أيها الناس استـجيبوا لربكم قال: وقَرّت فـي قلب كلّ مؤمن. وقال آخرون فـي ذلك, ما:
18946ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن سلـمة, عن مـجاهد, قـيـل لإبراهيـم: أذّن فـي الناس بـالـحجّ قال: يا ربّ كيف أقول؟ قل لَبّـيك اللهمّ لبـيك قال: فكانت أوّل التلبـية.
وكان ابن عبـاس يقول: عُنِـي بـالناس فـي هذا الـموضع: أهل القبلة. ذكر الرواية بذلك:
18947ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وأذّنْ فـي النّاسَ بـالـحَجّ يعنـي بـالناس: أهل القبلة, ألـم تسمع أنه قال: إنّ أوّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلّذِي بِبَكّة مُبـاركا... إلـى قوله: وَمَنْ دَخَـلَهُ آمِنا يقول: ومن دخـله من الناس الذين أمر أن يؤذن فـيهم, وكتب علـيهم الـحجّ, فإنه آمن, فعظّموا حرمات الله تعالـى, فإنها من تقوى القلوب.
وأما قوله: يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ فإن أهل التأويـل قالوا فـيه نـحو قولنا. ذكر من قال ذلك:
18948ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس: يَأْتُوكَ رِجالاً قال: مشاة.
18949ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو معاوية عن الـحجاج بن أرطاة, قال: قال ابن عبـاس:: ما آسَى علـى شيء فـاتنـي إلا أن لا أكون حججت ماشيا, سمعت الله يقول: يَأْتُوكَ رِجالاً.
18950ـ قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: حجّ إبراهيـم وإسماعيـل ماشيـين.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, عن ابن عبـاس: يَأْتُوكَ رِجالاً قال: علـى أرجلهم.
18951ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ قال: الإبل.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس: وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ قال: الإبل.
18952ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن عمر بن ذرّ, قال: قال مـجاهد: كانوا لا يركبون, فأنزل الله: يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ قال: فأمرهم بـالزاد, ورخص لهم فـي الركوب والـمتـجر.
وقوله: مِنْ كُلّ فَجّ عمِيقٍ.
18953ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ يعنـي: من مكان بعيد.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس: مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ قال: بعيد.
18954ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فَجّ عمِيقٍ قال: مكان بعيد.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة مثله.
وقوله: لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمنافع التـي ذكرها الله فـي هذا الـموضع فقال بعضهم: هي التـجارة ومنافع الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
18955ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, قال: حدثنا عمرو عن عاصم, عن أبـي رزين, عن ابن عبـاس: لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال: هي الأسواق.
18956ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر بن الـحكم, عن مـجاهد عن ابن عبـاس, قال: تـجارة.
18957ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم بن بهدلة, عن أبـي رزين, فـي قوله: لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال: أسواقهم.
18958ـ قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن واقد, عن سعيد بن جُبـير: لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال: التـجارة.
حدثنا عبد الـحميد بن بـيان, قال: أخبرنا إسحاق عن سفـيان, عن واقد, عن سعيد بن جبـير, مثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن واقد, عن سعيد, مثله.
حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا سنان, عن عاصم بن أبـي النـجود, عن أبـي رزين: لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال: الأسواق.
وقال آخرون: هي الأجْر فـي الاَخرة, والتـجارة فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:
18959ـ حدثنا ابن بشار, وسوار بن عبد الله, قالا: حدثنا يحيى بن سعيد, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: لِـيشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال: التـجارة, وما يرضي الله من أمر الدنـيا والاَخرة.
حدثنا عبد الـحميد بن بـيان, قال: حدثنا إسحاق, عن سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنا عبد الـحميد بن بـيان, قال: حدثنا سفـيان, قال: أخبرنا إسحاق, عن أبـي بشر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قوله: لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال: الأجر فـي الاَخرة, والتـجارة فـي الدنـيا.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
وقال آخرون: بل هي العفو والـمغفرة. ذكر من قال ذلك:
18960ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن سفـيان, عن جابر, عن أبـي جعفر: لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ قال: العفو.
18961ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, قال: قال مـحمد بن علـيّ: مغفرة.
وأولـى الأقوال بـالصواب قول من قال: عنـي بذلك: لـيشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتـجارة وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يَشْهَد له الـموسم ويأتـي له مكة أيام الـموسم من منافع الدنـيا والاَخرة, ولـم يخصص من ذلك شيئا من منافعهم بخبر ولا عقل, فذلك علـى العموم فـي الـمنافع التـي وصفت.
وقوله: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِـي أيّامِ مَعْلُوماتٍ عَلـى ما رَزَقَهُمْ مِنَ بَهِيـمَةِ الأَنْعامِ يقول تعالـى ذكره: وكي يذكروا اسم الله علـى ما رزقهم من الهدايا والبُدْن التـي أهدوها من الإبل والبقر والغنـم, فـي أيّامٍ مَعْلُومَاتٍ وهنّ أيام التشريق فـي قول بعض أهل التأويـل. وفـي قول بعضهم أيام العَشْر. وفـي قول بعضهم: يوم النـحر وأيام التشريق.
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـي ذلك بـالروايات, وبـيّنا الأولـى بـالصواب منها فـي سورة البقرة, فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع غير أنـي أذكر بعض ذلك أيضا فـي هذا الـموضع.
18962ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِـي أيّامِ مَعْلُوماتٍ يعنـي أيام التشريق.
18963ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: حدثنا عبـيد بن سلـيـمان, قال: سمعت الضحاك فـي قوله: أيّامٍ مَعْلُوماتٍ يعنـي أيام التشريق, عَلـى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيـمَةِ الأَنْعامِ يعنـي البدن.
18964ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فِـي أيّامٍ مَعْلُوماتٍ قال: أيام العشر, والـمعدودات: أيام التشريق.
وقوله: فَكلَوا مِنْها يقول: كلوا من بهائم الأنعام التـي ذكرتـم اسم الله علـيها أيها الناس هنالك. وهذا الأمر من الله جلّ ثناؤه أمر إبـاحة لا أمر إيجاب وذلك أنه لا خلاف بـين جميع الـحُجة أن ذابح هديه أو بدنته هنالك, إن لـم يأكل من هديه أو بدنته, أنه لـم يضيع له فرضا كان واجبـا علـيه, فكان معلوما بذلك أنه غير واجب. ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك من أهل العلـم:
18965ـ حدثنا سوّار بن عبد الله, قال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جُرَيج, عن عطاء, قوله: فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البـائِسَ الفَقِـيرَ قال: كان لا يرى الأكل منها واجبـا.
18966ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيـم, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن مـجاهد, أنه قال: هي رُخصة: إن شاء أكل, وإن شاء لـم يأكل, وهي كقوله: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فـانْتَشِرُوا فـي الأرْضِ يعنـي قوله: فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْترّ.
18967ـ قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم, فـي قوله: فَكُلُوا مِنْها قال: هي رخصة, فإن شاء أكل وإن شاء لـم يأكل.
18968ـ قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حجاج, عن عطاء فـي قوله: فَكُلُوا مِنْها قال: هي رخصة, فإن شاء أكلها وإن شاء لـم يأكل.
18969ـ حدثنـي علـيّ بن سهل, قال: حدثنا زيد, قال: حدثنا سفـيان, عن حصين, عن مـجاهد, فـي قوله: فَكُلُوا مِنْها قال: إنـما هي رخصة.
وقوله: وأطْعِمُوا البـائِسَ الفَقِـيرَ يقول: وأطعموا مـما تذبحون أو تنـحرون هنالك من بهيـمة الأنعام من هديكم وبُدْنكم البـائسَ, وهو الذي به ضرّ الـجوع والزّمانة والـحاجة, والفقـيرَ: الذي لا شيء له.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18970ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البـائِسَ الفَقِـيرَ يعنـي: الزّمِن الفقـير.
18971ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن رجل, عن مـجاهد: البـائِسَ الفَقِـيرَ: الذي يـمد إلـيك يديه.
18972ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: البَـائِسَ الفَقِـيرَ قال: هو القانع.
18973ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: أخبرنـي عمر بن عطاء, عن عكرِمة, قال: البـائسَ: الـمضطر الذي علـيه البؤس, والفقـير: الـمتعفّف.
قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: البـائِسَ الذي يبسط يديه.
وقوله: ثُمّ لِـيَقْضُوا تَفَثَهُمْيقول: تعالـى ذكره: ثم لـيقضوا ما علـيهم من مناسك حجهم: من حلق شعر, وأخذ شارب, ورمي جمرة, وطواف بـالبـيت.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18974ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب, قال: ثنـي يزيد, قال: أخبرنا الأشعث بن سوار, عن نافع, عن ابن عمر, أنه قال: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: ما هم علـيه فـي الـحجّ.
18975ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد, قال: ثنـي الأشعث, عن نافع, عن ابن عمر, قال: التفَث: الـمناسك كلها.
18976ـ قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا عبد الـملك, عن عطاء, عن ابن عبـاس, أنه قال, فـي قوله: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: التفَث: حلق الرأس, وأخذ من الشاربـين, ونتف الإبط, وحلق العانة, وقصّ الأظفـار, والأخذ من العارضين, ورمي الـجمار, والـموقـف بعرفة والـمزدلفة.
18977ـ حدثنا حميد, قال: حدثنا بشر بن الـمفضل, قال: حدثنا خالد, عن عكرِمة, قال: التفَث: الشعر والظّفر.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن خالد, عن عكرِمة, مثله.
18978ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي أبو صخر, عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ, أنه كان يقول فـي هذه الاَية: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ: رمي الـجِمار, وذبح الذبـيحة, وأخذ من الشاربـين واللـحية والأظفـار, والطواف بـالبـيت وبـالصفـا والـمروة.
18979ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد أنه قال فـي هذه الاَية: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: هو حلق الرأس. وذكر أشياء من الـحجّ قال شعبة: لا أحفظها.
قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد, مثله.
18980ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: حلق الرأس, وحلق العانة, وقصّ الأظفـار, وقصّ الشارب, ورمي الـجمار, وقصّ اللـحية.
18981ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله. إلا أنه لـم يقل فـي حديثه: وقصّ اللـحية.
18982ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي, قال: حدثنا الـمـحاربـي, قال: سمعت رجلاً يسأل ابن جُرَيج, عن قوله: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: الأخذ من اللـحية, ومن الشارب, وتقلـيـم الأظفـار, ونتف الإبط, وحلق العانة, ورمي الـجمار.
18983ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا منصور, عن الـحسن, وأخبرنا جويبر, عن الضحاك أنهما قالا: حلق الرأس.
18984ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ يعنـي: حلق الرأس.
18985ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: التفث: حلق الرأس, وتقلـيـم الظفر.
18986ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ يقول: نسكهم.
18987ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: التفث: حرمهم.
18988ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: يعنـي بـالتفث: وضع إحرامهم من حلق الرأس, ولبس الثـياب, وقصّ الأظفـار ونـحو ذلك.
18989ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, قال: التفث: حلق الشعر, وقصّ الأظفـار والأخذ من الشارب, وحلق العانة, وأمر الـحجّ كله.
وقوله: وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ يقول: ولـيوفوا الله بـما نذروا من هَدْي وبدنة وغير ذلك.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
18990ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ نـحر ما نذروا من البدن.
18991ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ نذر الـحجّ والهَدي, وما نذر الإنسان من شيء يكون فـي الـحجّ.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ قال: نذر الـحجّ والهدي, وما نذر الإنسان علـى نفسه من شيء يكون فـي الـحجّ.
وقوله: وَلْـيَطّوّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيقِ يقول: ولـيطوّفوا ببـيت الله الـحرام.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: العَتِـيق فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: قـيـل ذلك لبـيت الله الـحرام, لأن الله أعتقه من الـجبـابرة أن يصلوا إلـى تـخريبه وهدمه. ذكر من قال ذلك:
18992ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن الزهري, أن ابن الزبـير, قال: إنـما سمي البـيت العتـيق, لأن الله أعتقه من الـجبـابرة.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الزهري, عن ابن الزبـير, مثله.
18993ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: إنـما سمي العتـيق, لأنه أعتق من الـجبـابرة.
18994ـ قال: حدثنا سفـيان, قال: حدثنا أبو هلال, عن قَتادة: وَلْـيَطّوفوا بـالْبَـيْتِ العَتِـيقِ قال: أُعْتِق من الـجبـابرة.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: البَـيْتِ العَتِـيقِ قال: أعتقه الله من الـجبـابرة, يعنـي الكعبة.
وقال آخرون: قـيـل له عتـيق لأنه لـم يـملكه أحد من الناس. ذكر من قال ذلك:
18995ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن عبـيد, عن مـجاهد, قال: إنـما سمي البـيت العتـيق لأنه لـيس لأحد فـيه شيء.
وقال آخرون: سمي بذلك لقِدمه. ذكر من قال ذلك:
18996ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: البَـيْتِ العَتِـيقِ قال: العتـيق: القديـم, لأنه قديـم, كما يقال: السيف العتـيق, لأنه أوّل بـيت وُضع للناس بناه آدم, وهو أوّل من بناه, ثم بوّأ الله موضعه لإبراهيـم بعد الغرق, فبناه إبراهيـم وإسماعيـل.
قال أبو جعفر: ولك هذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه فـي قوله: البَـيْتِ العَتِـيقِ وجه صحيح, غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانـيه علـيه فـي الظاهر. غير أن الذي رُوي عن ابن الزبـير أولـى بـالصحة, إن كان ما:
18997ـ حدثنـي به مـحمد بن سهل البخاري, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: أخبرنـي اللـيث, عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر, عن الزهريّ, عن مـحمد بن عروة, عن عبد الله بن الزبـير, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّـمَا سُمّيَ البَـيْتُ العَتِـيقُ لأنّ اللّهَ أعْتَقَهُ مِنَ الـجَبـابِرَةِ فَلَـمْ يَظْهَرْ عَلَـيْهِ قَطّ صَحِيحا».
18998ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال الزهريّ: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّـمَا سُمّيَ البَـيْتُ العَتِـيقُ لأَنّ اللّهَ أعْتَقَهُ» ثم ذكر مثله.
وعنـي بـالطواف الذي أمر جلّ ثناؤه حاجّ بـيته العتـيق به فـي هذه الاَية طواف الإفـاضة الذي يُطاف به بعد التعريف, إما يوم النـحر وإما بعده, لا خلاف بـين أهل التأويـل فـي ذلك. ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك:
18999ـ حدثنا عمرو بن سعيد القرشي, قال: حدثنا الأنصاري, عن أشعث, عن الـحسن: وَلْـيَطّوّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ قال: طواف الزيارة.
19000ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا خالد, قال: حدثنا الأشعث, أن الـحسن قال فـي قوله: وَلْـيَطّوّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ قال: الطواف الواجب.
19001ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: وَلْـيَطّوّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ يعنـي: زيارة البـيت.
19002ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, عن حجاج وعبد الـملك, عن عطاء, فـي قوله: وَلْـيَطّوّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ قال: طواف يوم النـحر.
19003ـ حدثنـي أبو عبد الرحمن البرقـي, قال: حدثنا عمرو بن أبـي سلـمة, قال: سألت زُهَيرا عن قول الله: وَلْـيَطّوّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ قال: طواف الْوَداع.
واختلف القرّاء فـي قراءة هذه الـحروف, فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة «ثُمّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْـيَطّوّفُوا» بتسكين اللام فـي كل ذلك طلب التـخفـيف, كما فعلوا فـي «هو» إذا كانت قبله واو, فقالوا وَهْوَ عَلِـيـمٌ بِذاتِ الصّدُورِ فسكّنوا الهاء, وكذلك يفعلون فـي لام الأمر إذا كان قبلها حرف من حروف النسق كالواو والفـاء وثم. وكذلك قرأت عامة قرّاء أهل البصرة, غير أن أبـا عمرو بن العلاء كان يكسر اللام من قوله: «ثُمّ لِـيَقْضُوا» خاصة من أجل أن الوقوف علـى «ثم» دون «لـيقضوا» حسن, وغير جائز الوقوف علـى الواو والفـاء. وهذا الذي اعتلّ به أبو عمرو لقراءته علة حسنة من جهة القـياس, غير أن أكثر القرّاء علـى تسكينها.
وأولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك عندي, أن التسكين فـي لام «لـيقضوا» والكسر قراءتان مشهورتان ولغتان سائرتان, فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب. غير أن الكسر فـيها خاصة أقـيس, لـما ذكرنا لأبـي عمرو من العلة, لأن من قرأ: وَهُوْ عَلِـيـمٌ بذَاتِ الصّدُورِ فهو بتسكين الهاء مع الواو والفـاء, ويحركها فـي قوله: ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِـيامَةِ مِنَ الـمُـحْضَرِينَ فذلك الواجب علـيه أن يفعل فـي قوله: «ثُمّ لِـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» فـيحرّك اللام إلـى الكسر ثم «ثم» وإن سكّنها فـي قوله: وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ. وقد ذكر عن أبـي عبد الرحمن السّلَـميّ والـحسن البصري تـحريكها مع «ثم» والواو, وهي لغة مشهورة, غير أن أكثر القرّاء مع الواو والفـاء علـى تسكينها, وهي أشهر اللغتـين فـي العرب وأفصحها, فـالقراءة بها أعجب إلـيّ من كسرها.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله ذلكَ: هذا الذي أمر به من قضاء التفث والوفـاء بـالنذور والطواف بـالبـيت العتـيق, هو الفرض الواجب علـيكم يا أيها الناس فـي حجكم. وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْد رَبّهِ يقول: ومن يجتنب ما أمره الله بـاجتنابه فـي حال إحرامه تعظيـما منه لـحدود الله أن يواقعها وحُرَمه أن يستـحلها, فهو خير له عند ربه فـي الاَخرة. كما:
19004ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال مـجاهد, فـي قوله: ذلكَ وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ قال: الـحُرْمة: مكة والـحجّ والعُمرة, وما نَهَى الله عنه من معاصيه كلها.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
19005ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ قال: الـحرمات: الـمَشْعَر الـحرام, والبـيت الـحرام, والـمسجد الـحرام, والبلد الـحرام هؤلاء الـحرمات.
وقوله: وأُحِلّتْ لَكُمُ الأَنْعامُ يقول جلّ ثناؤه: وأحلّ الله لكم أيها الناس الأنعام أن تأكلوها إذا ذكّيتـموها, فلـم يحرّم علـيكم منها بحيرة, ولا سائبة, ولا وَصِيـلة, ولا حاما, ولا ما جعلتـموه منها لاَلهتكم. إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ يقول: إلا ما يتلـى علـيكم فـي كتاب الله, وذلك: الـميتة, والدم, ولـحم الـخنزير, وما أهلّ لغير الله به, والـمنـخنقة, والـموقوذة, والـمتردّية, والنطيحة, وما أكل السبع, وما ذُبح علـى النّصب فإن ذلك كله رجس. كما:
19006ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: إلاّ ما يُتْلَـى عَلَـيْكُمْ قال: إلا الـميتة, وما لـم يذكر اسم الله علـيه.
حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19007ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ يقول تعالـى ذكره: فـاجتنبوا طاعة الشيطان فـي عبـادة الأوثان.
19008ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج فـي قوله: الرّجْسَ مِنَ الأوْثانِ قال: عبـادة الأوثان.
وقوله: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ يقول تعالـى ذكره: واتقوا قول الكذب والفرية علـى الله بقولكم فـي الاَلهة: ما نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِـيُقَرّبُونا إلـى اللّهِ زُلْفَـى وقولكم للـملائكة: هي بنات الله, ونـحو ذلك من القول, فإن ذلك كذب وزور وشرك بـالله.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19009ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: قَوْلَ الزّورِ قال: الكذب.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد مثله.
19010ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ حُنَفـاءَ لِلّهِ غيرَ مُشْرِكِينَ بِهِ يعنـي: الافتراء علـى الله والتكذيب.
19011ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن عاصم, عن وائل بن ربـيعة, عن عبد الله, قال: تعدل شهادة الزور بـالشرك. وقرأ: فـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ.
19012ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو بكر, عن عاصم, عن وائل بن ربـيعة, قال: عُدِلت شهادة الزور الشرك. ثم قرأ هذه الاَية: فـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ.
19013ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو أُسامة, قال: حدثنا سفـيان العصفري, عن أبـيه, عن خُرَيـم بن فـاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُدِلَتْ شَهادَةُ الزّورِ بـالشّرْكِ بـاللّهِ». ثم قرأ: فـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ.
19014ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن سفـيان العُصفريّ, عن فـاتك بن فضالة, عن أيـمن بن خريـم, أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبـا فقال: «أيّها النّاسُ عُدِلَتْ شَهادَةُ الزّورِ بـالشّرْكِ بـاللّهِ» مرّتـين. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزّورِ.
ويجوز أن يكون مرادا به: اجتنبوا أن ترجسوا أنتـم أيها الناس من الأوثان بعبـادتكم إياها.
فإن قال قائل: وهل من الأوثان ما لـيس برجس حتـى قـيـل: فـاجتنبوا الرجس منها؟ قـيـل: كلها رجس. ولـيس الـمعنى ما ذهبت إلـيه فـي ذلك, وإنـما معنى الكلام: فـاجتنبوا الرجس الذي يكون من الأوثان أي عبـادتها, فـالذي أمر جلّ ثناؤه بقوله: فـاجْتَنِبُوا الرّجْسَ منها اتقاء عبـادتها, وتلك العبـادة هي الرجس علـى ما قاله ابن عبـاس ومن ذكرنا قوله قبل.
يقول تعالـى ذكره: اجتنبوا أيها الناس عبـادة الأوثان, وقول الشرك, مستقـيـمين لله علـى إخلاص التوحيد له, وإفراد الطاعة والعبـادة له خالصا دون الأوثان والأصنام, غير مشركين به شيئا من دونه فإنه من يُشرك بـالله شيئا من دونه فمثله فـي بعده من الهدى وإصابة الـحقّ وهلاكه وذهابه عن ربه, مَثل من خرّ من السماء فتـخطفه الطير فهلك, أو هوت به الريح فـي مكان سحيق, يعنـي من بعيد, من قولهم: أبعده الله وأسحقه, وفـيه لغتان: أسحقته الريح وسحقته, ومنه قـيـل للنـخـلة الطويـلة: نـخـلة سحوق ومنه قول الشاعر:
ويُروى: «تُسْحِقُ». يقول: فهكذا مَثل الـمشرك بـالله فـي بُعده من ربه ومن إصابة الـحقّ, كبُعد هذا الواقع من السماء إلـى الأرض, أو كهلاك من اختطفته الطير منهم فـي الهواء.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19015ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فَكأنّـمَا خَرّ منَ السّماءِ قال: هذا مَثل ضربه الله لـمن أشرك بـالله فـي بُعده من الهُدى وهلاكه فَتَـخْطَفُهُ الطّيْرُ أوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِـي مَكانٍ سَحِيقٍ.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
19016ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: فِـي مَكانٍ سَحِيقٍ قال: بعيد.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
وقـيـل: فَتَـخْطَفُهُ الطّيْرُ وقد قـيـل قبله: فكأنّـمَا خَرّ منَ السّماءِ وخرّ فعل ماض, وتـخطفه مستقبل, فعطف بـالـمستقبل علـى الـماضي, كما فعل ذلك فـي قوله: إنّ الّذِينَ كَفَرُوا ويَصُدّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ وقد بـيّنت ذلك هناك.
يقول تعالـى ذكره: هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور, حنفـاء لله, وتعظيـم شعائر الله, وهو استـحسان البُدن واستسمانها وأداء مناسك الـحجّ علـى ما أمر الله جلّ ثناؤه, من تقوى قلوبكم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19017ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا إسماعيـل بن إبراهيـم, قال: حدثنا مـحمد بن زياد, عن مـحمد بن أبـي لـيـلـى, عن الـحكم, عن مِقْسم, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ قال: استعظامها, واستـحسانها, واستسمانها.
19018ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مـحمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبـي بَزّة عن مـجاهد, فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ قال: الاستسمان والاستعظام.
19019ـ وبه عن عنبسة, عن لـيث, عن مـجاهد, مثله, إلا أنه قال: والاستـحسان.
حدثنا عبد الـحميد بن بـيان الواسطيّ, قال: أخبرنا إسحاق, عن أبـي بشر, وحدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ قال: استعظام البدن, واستسمانها, واستـحسانها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19020ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا داود بن أبـي هند, عن مـحمد بن أبـي موسى, قال: الوقوف بعرفة من شعائر الله, وبجَمْع من شعائر الله, ورمي الـجمار من شعائر الله, والبُدْن من شعائر الله, ومن يعظمها فإنها من شعائر الله فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فمن يعظمها فإنها من تقوى القلوب.
19021ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ قال: الشعائر: الـجمار, والصفـا والـمروة من شعائر الله, والـمَشْعَر الـحرام والـمزدلفة, قال: والشعائر تدخـل فـي الـحرم, هي شعائر, وهي حرم.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب: أن يقال: إن الله تعالـى ذكره أخبر أن تعظيـم شعائره, وهي ما جعله أعلاما لـخـلقه فـيـما تعبّدهم به من مناسك حجهم, من الأماكن التـي أمرهم بأداء ما افترض علـيهم منها عندها والأعمال التـي ألزمهم عملها فـي حجهم: من تقوى قلوبهم لـم يخصص من ذلك شيئا, فتعظيـم كلّ ذلك من تقوى القلوب, كما قال جلّ ثناؤه وحقّ علـى عبـاده الـمؤمنـين به تعظيـم جميع ذلك. وقال: إنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ وأنّث ولـم يقل: «فإنه», لأنه أريد بذلك. فإن تلك التعظيـمة مع اجتناب الرجس من الأوثان من تقوى القلوب, كما قال جلّ ثناؤه: إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ. وعنـي بقوله: فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ فإنها من وجل القلوب من خشية الله, وحقـيقة معرفتها بعظمته وإخلاص توحيده.
اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمنافع التـي ذكر الله فـي هذه الاَية وأخبر عبـاده أنها إلـى أجل مسمى, علـى نـحو اختلافهم فـي معنى الشعائر التـي ذكرها جلّ ثناؤه فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ فقال الذين قالوا عنـي بـالشعائر البدن. معنى ذلك: لكم أيها الناس فـي البدن منافع. ثم اختلف أيضا الذين قالوا هذه الـمقالة فـي الـحال التـي لهم فـيها منافع, وفـي الأجل الذي قال عزّ ذكره: إلـى أجَلٍ مُسَمّى فقال بعضهم: الـحال التـي أخبر الله جلّ ثناؤه أن لهم فـيها منافع, هي الـحال التـي لـم يوجبها صاحبها ولـم يسمها بدنة ولـم يقلّدْها. قالوا: ومنافعها فـي هذه الـحال: شرب ألبـانها, وركوب ظهورها, وما يرزقهم الله من نتاجها وأولادها. قالوا: والأجل الـمسمى الذي أخبر جلّ ثناؤه أن ذلك لعبـاده الـمؤمنـين منها إلـيها, هو إلـى إيجابهم إياها, فإذا أوجبوها بطل ذلك ولـم يكن لهم من ذلك شيء. ذكر من قال ذلك:
19022ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيى بن عيسى, عن ابن أبـي لـيـلـى, عن الـحكم, عن مقسم, عن ابن عبـاس فـي: لَكُمْ فِـيها مَنَافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: ما لـم يُسَمّ بُدْنا.
19023ـ حدثنا عبد الـحميد بن بـيان, قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف, عن سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد فـي قوله: لَكُمْ فِـيها مَنَافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: الركوب واللبن والولد, فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب كله.
حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد, فـي هذه الاَية: لَكُمْ فِـيها مَنَافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: لكم فـي ظهورها وألبـانها وأوبـارها, حتـى تصير بُدْنا.
قال: حدثنا ابن عديّ, قال: حدثنا شعبة, عن الـحكم, عن مـجاهد, بـمثله.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ابن أبـي نـجيح, ولـيث عن مـجاهد: لَكُمْ فِـيها مَنَافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: فـي أشعارها وأوبـارها وألبـانها, قبل أن تسميها بدنة.
قال: حدثنا هارون بن الـمغيرة, عن عنبسة, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, مثله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: لَكُمْ فِـيها مَنَافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: فـي البدن لـحومها وألبـانها وأشعارها وأوبـارها وأصوافها قبل أن تسمى هديا.
19024ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله, وزاد فـيه: وهي الأجل الـمسمى.
19025ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حجاج, عن عطاء أنه قال فـي قوله: لَكُمْ فِـيها مَنَافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَـحِلّها إلـى البَـيْت العَتِـيق قال: منافع فـي ألبـانها وظهورها وأوبـارها, إلـى أجَلٍ مُسَمّى: إلـى أن تقلد.
19026ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا جويبر, عن الضحاك, مثل ذلك.
19027ـ حدثنـي يعقوب, قال: قال ابن علـية: سمعت ابن أبـي نـجيح يقول فـي قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: إلـى أن تُوجِبها بَدَنة.
19028ـ قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن أبـي نـجيح, عن قَتادة: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى يقول: فـي ظهورها وألبـانها, فإذا قلدت فمـحلها إلـى البـيت العتـيق.
وقال آخرون مـمن قال الشعائر البدن فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ والهاء فـي قوله: لَكُمْ فِـيها من ذكر الشعائر, ومعنى قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافعُ لكم فـي الشعائر إلـى تعظمونها لله منافع بعد اتـخاذكموها لله بدنا أو هدايا, بأن تركبوا ظهورها إذا احتـجتـم إلـى ذلك, وتشربوا ألبـانها إن اضطررتـم إلـيها. قالوا: والأجل الـمسمى الذي قال جلّ ثناؤه: إلـى أجَل مُسَمّى إلـى أن تنـحر. ذكر من قال ذلك:
19029ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ابن أبـي نـجيح, عن عطاء: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: هو ركوب البدن, وشرب لبنها إن احتاج.
19030ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج, قال: قال عطاء بن أبـي ربـاح فـي قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: إلـى أن تنـحر, قال: له أن يحملها علـيها الـمُعِيْـي والـمنقطع به من الضرورة, كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بـالبدنة إذا احتاج إلـيها سيدها أن يحمل علـيها ويركب عند منهوكه. قلت لعطاء: ما؟ قال: الرجل الراجل, والـمنقطع به, والـمتبع وإن نتـجت, أن يحمل علـيها ولدها, ولا يشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها, فإن كان فـي لبنها فضل فلـيشرب من أهداها ومن لـم يهدها.
وأما الذين قالوا: معنى الشعائر فـي قوله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله: شعائر الـحجّ, وهي الأماكن التـي يُنْسك عندها لله, فإنهم اختلفوا أيضا فـي معنى الـمنافع التـي قال الله: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ فقال بعضهم: معنى ذلك: لكم فـي هذه الشعائر التـي تعظمونها منافع بتـجارتكم عندها وبـيعكم وشرائكم بحضرتها وتسوّقكم. والأجل الـمسمى: الـخروج من الشعائر إلـى غيرها ومن الـمواضع التـي ينسك عندها إلـى ما سواها فـي قول بعضهم.
19031ـ حدثنـي الـحسن بن علـيّ الصّدائَي, قال: حدثنا أبو أسامة عن سلـيـمان الضبـي, عن عاصم بن أبـي النّـجود, عن أبـي رزين, عن ابن عبـاس, فـي قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ قال: أسواقهم, فإنه لـم يذكر منافع إلا للدنـيا.
19032ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا داود بن أبـي هند, عن مـحمد بن أبـي موسى, قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى قال: والأجل الـمسمى: الـخروج منه إلـى غيره.
وقال آخرون منهم: الـمنافع التـي ذكرها الله فـي هذا الـموضع: العمل لله بـما أمر من مناسك الـحجّ. قالوا: والأجل الـمسمّى: هو انقضاء أيام الـحجّ التـي يُنْسَك لله فـيهنّ. ذكر من قال ذلك:
19033ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَـحِلّها إلـى الَبْـيتَ العَتِـيق فقرأ قول الله: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب لكم فـي تلك الشعائر منافع إلـى أجل مسمى, إذا ذهبت تلك الأيام لـم تر أحدا يأتـي عرفة يقـف فـيها يبتغي الأجر, ولا الـمزدلفة, ولا رمي الـجمار, وقد ضربوا من البلدان لهذه الأيام التـي فـيها الـمنافع, وإنـما منافعها إلـى تلك الأيام, وهي الأجل الـمسمى, ثم مـحلّها حين تنقضي تلك الأيام إلـى البـيت العتـيق.
قال أبو جعفر: وقد دللنا قبل علـى أن قول الله تعالـى ذكره: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ معنـيّ به: كلّ ما كان من عمل أو مكان جعله الله علـما لـمناسك حجّ خـلقه, إذ لـمن يخصص من ذلك جلّ ثناؤه شيئا فـي خبر ولا عقل. وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فـي هذه الشعائر منافع إلـى أجل مسمى, فما كان من هذه الشعائر بدنا وهديا, فمنافعها لكم من حين تـملكون إلـى أن أوجبتـموها هدايا وبدنا, وما كان منها أماكن ينسك لله عندها, فمنافعها التـجارة لله عندها والعمل بـما أمر به إلـى الشخوص عنها, وما كان منها أوقاتا بأن يُطاع الله فـيها بعمل أعمال الـحجّ وبطلب الـمعاش فـيها بـالتـجارة, إلـى أن يطاف بـالبـيت فـي بعض, أو يوافـى الـحرم فـي بعض ويخرج عن الـحرم فـي بعض.
وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم فـي تأويـل قوله: لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمّى فـي تأويـل قوله: ثُمّ مَـحِلّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ فقال الذين قالوا عنـي بـالشعائر فـي هذا الـموضع البُدْن: معنى ذلك ثم مـحل البدن إلـى أن تبلغ مكة, وهي التـي بها البـيت العتـيق. ذكر من قال ذلك:
19034ـ حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم, قال: أخبرنا هشيـم, قال: أخبرنا حجاج, عن عطاء: ثُمّ مَـحِلّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ إلـى مكة.
19035ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: ثُمّ مَـحِلّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ يعنـي مـحل البدن حين تسمى إلـى البـيت العتـيق.
19036ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جرَيج, عن مـجاهد, قال: ثُمّ مَـحِلّها حين تسمى هديا إلـى البـيت العتـيق, قال: الكعبة أعتقها من الـجبـابرة.
فوجه هؤلاء تأويـل ذلك إلـى ثَمّ منـحر البدن والهدايا التـي أوجبتـموها إلـى أرض الـحرم. وقالوا: عنـي بـالبـيت العتـيق أرض الـحرم كلها. وقالوا: وذلك نظير قوله: فَلا يَقْرَبُوا الـمَسْجِدَ الـحَرَامَ والـمراد: الـحرم كله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم مـحلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلـى البـيت العتـيق أن تطوفوا به يوم النـحر بعد قضائكم ما أوجبه الله علـيكم فـي حجكم. ذكر من قال ذلك:
19037ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا يزيد بن هارون, قال: أخبرنا داود بن أبـي هند, عن مـحمد بن أبـي موسى: ثُمّ مَـحِلّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ قال: مـحلّ هذه الشعائر كلها الطواف بـالبـيت.
وقال آخرون: معنى ذلك: ثم مـحلّ منافع أيام الـحجّ إلـى البـيت العتـيق بـانقضائها. ذكر من قال ذلك:
19038ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: ثُمّ مَـحِلّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ حين تنقضي تلك الأيام, أيام الـحجّ إلـى البـيت العتـيق.
وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: ثم مـحلّ الشعائر التـي لكم فـيها منافع إلـى أجل مسمى إلـى البـيت العتـيق, فما كان من ذلك هديا أو بدنا فبـموافـاته الـحرم فـي الـحرم, وما كان من نُسُك فـالطواف بـالبـيت.
وقد بـيّنا الصواب فـي ذلك من القول عندنا فـي معنى الشعائر.
يقول تعالـى ذكره: وَلِكُلّ أُمّةٍ ولكلّ جماعة سَلَف فـيكم من أهل الإيـمان بـالله أيها الناس, جعلنا ذبحا يُهَرِيقون دمه لِـيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلـى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيـمَةِ الأنْعامِ بذلك لأن من البهائم ما لـيس من الأنعام, كالـخيـل والبغال والـحمير. وقـيـل: إنـما قـيـل للبهائم بهائم لأنها لا تتكلـم.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: جَعَلْنا مَنْسَكا قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19039ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا قال: إهراق الدماء لِـيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
وقوله: فَإِلهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ يقول تعالـى ذكره: فـاجتنبوا الرجس من الأوثان, واجتنبوا قول الزور, فإلهكم إله واحد لا شريك له, فإياه فـاعبدوا وله أخـلصوا الألوهة. وقوله: فَلَهُ أسْلِـمُوا يقول: فلإلهكم فـاخضعوا بـالطاعة, وله فذلّوا بـالإقرار بـالعبودية.) وقوله: وَبَشّرِ الـمُخْبِتِـينَ يقول تعالـى ذكره: وبشر يا مـحمد الـخاضعين لله بـالطاعة, الـمذعنـين له بـالعبودية, الـمنـيبـين إلـيه بـالتوبة. وقد بـيّنا معنى الإخبـاث بشواهده فـيـما مضى من كتابنا هذا.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمراد به فـي هذا الـموضع, فقال بعضهم: أريد به: وبشّر الـمطمئنـين إلـى الله. ذكر من قال ذلك:
19040ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَبَشّرِ الـمُخْبِتِـينَ قال: الـمطمئنـين.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, قوله: وَبَشّرِ الـمُخْبِتِـينَ الـمطمئنـين إلـى الله.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَبَشّرِ الـمُخْبِتِـينَ قال: الـمطمئنـين.
19041ـ حدثنا الـحسن, قال: حدثنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: وَبَشّرِ الـمُخْبِتِـينَ قال: الـمتواضعين.
وقال آخرون فـي ذلك بـما:
19042ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم, عن عثمان بن عبد الله بن أوس, عن عمرو بن أوس, قال: الـمخبتون: الذين لا يَظْلـمون, وإذا ظُلـموا لـم ينتصروا.
حدثنـي مـحمد بن عثمان الواسطي, قال: حدثنا حفص بن عمر, قال: حدثنا مـحمد بن مسلـم الطائفـي, قال: ثنـي عثمان بن عبد الله بن أوس, عن عمرو بن أوس مثله.
فهذا من نعت الـمخبتـين يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وبشّر يا مـحمد الـمخبتـين الذين تـخشع قلوبهم لذكر الله وتـخضع من خشيته, وَجَلاً من عقابه وخوفـا من سخطه. كما:
19043ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال: لا تقسو قلوبهم. والصّابِرِينَ عَلـى ما أصَابَهُمْ من شدّة فـي أمر الله, ونالهم من مكروه فـي جنبه. والـمُقِـيـمِي الصّلاَةِ الـمفروضة. وَمِـمّا رَزَقْناهُمْ من الأموال. يُنْفِقُونَ فـي الواجب علـيهم إنفـاقها فـيه, فـي زكاة ونفقة عيال ومن وجبت علـيه نفقته وفـي سبـيـل الله.
يقول تعالـى ذكره: والبُدْنَ وهي جمع بَدَنة, وقد يقال لواحدها: بَدَن, وإذا قـيـل بَدَن احتـمل أن يكون جمعا وواحدا, يدلّ علـى أنه قد يقال ذلك للواحد قول الراجز:
والبَدَن: هو الضخم من كلّ شيء, ولذلك قـيـل لامرىء القـيس بن النعمان صاحب الـخورنق والسّدِير: البَدَن, لضخمه واسترخاء لـحمه, فإنه يقال: قد بَدّن تبدينا. فمعنى الكلام: والإبل العظام الأجسام الضخام, جعلناها لكم أيها الناس من شعائر الله يقول: من أعلام أمر الله الذي أمركم به فـي مناسك حجكم إذا قلدتـموها وجللتـموها وأشعرتـموها, علـم بذلك وشعر أنكم فعلتـم ذلك من الإبل والبقر. كما:
19044ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن ابن جُرَيج, قال: قال عطاء: والبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِن شَعائِرِ اللّهِ قال: البقرة والبعير.
وقوله: لَكُمْ فِـيها خَيْرٌ يقول: لكم فـي البدن خير وذلك الـخير هو الأجر فـي الاَخرة بنـحرها والصدقة بها, وفـي الدنـيا: الركوب إذا احتاج إلـى ركوبها.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19045ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: لَكُمْ فِـيها خَيْرٌ قال: أجر ومنافع فـي البدن.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19046ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم: لَكُمْ فِـيها خَيْرٌ قال: اللبن والركوب إذا احتاج.
حدثنا عبد الـحميد بن بـيان, قال: أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن منصور, عن إبراهيـم: لَكُمْ فِـيها خَيْرٌ قال: إذا اضطررت إلـى بدنتك ركبتها وشربت لبنها.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيـم: لَكُمْ فِـيها خَيْرٌ من احتاج إلـى ظهر البدنة ركب, ومن احتاج إلـى لبنها شرب.
وقوله: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ يقول تعالـى ذكره: فـاذكروا اسم الله علـى البدن عند نـحركم إياها صوافّ.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الأمصار: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ بـمعنى مصطفة, واحدها: صافة, وقد صفت بـين أيديها. ورُوي عن الـحسن ومـجاهد وزيد بن أسلـم وجماعة أُخر معهم, أنهم قرءوا ذلك: «صَوَافِـيَ» بـالـياء منصوبة, بـمعنى: خالصة لله لا شريك له فـيها صافـية له. وقرأ بعضهم ذلك: «صَوَافٍ» بإسقاط الـياء وتنوين الـحرف, علـى مثال: عوارٍ وعوادٍ. ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأه: «صَوَافِنٌ» بـمعنى: مُعْقلة.
والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأه بتشديد الفـاء ونصبها, لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه بـالـمعنى الذي ذكرناه لـمن قرأه كذلك. ذكر من تأوّله بتأويـل من قرأه بتشديد الفـاء ونصبها:
19047ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا جابر بن نوح, عن الأعمش, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ قال: الله أكبر الله أكبر, اللهمّ
منك ولك. صوافّ: قـياما علـى ثلاث أرجل. فقـيـل لابن عبـاس: ما نصنع بجلودها؟ قال: تصدّقوا بها, واستـمتعوا بها.
19048ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: حدثنا أيوب بن سويد, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس, فـي قوله: صَوَافّ قال: قائمة, قال: يقول: الله أكبر, لا إله إلا الله, اللهمّ منك ولك.
حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا ابن أبـي عديّ, عن شعبة, عن سلـيـمان, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ قال: قـياما علـى ثلاث قوائم معقولة بـاسم الله, الله أكبر, اللهمّ منك ولك.
19049ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا حصين, عن مـجاهد, عن ابن عبـاس, فـي قوله: صَوَافّ قال: معقولة إحدى يديها, قال: قائمة علـى ثلاث قوائم.
19050ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, فـي قوله: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ يقول: قـياما.
19051ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ والصوافّ: أن تعقل قائمة واحدة, وتصفها علـى ثلاث فتنـحرها كذلك.
19052ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا يعلـى بن عطاء, قال: أخبرنا بجير بن سالـم, قال: رأيت ابن عمر وهو ينـحر بدنته, قال: فقال: صَوَافّ كما قال الله, قال: فنـحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها.
19053ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: أخبرنا لـيث, عن مـجاهد, قال: الصّوافّ: إذا عقلت رجلها وقامت علـى ثلاث.
19054ـ قال: حدثنا لـيث, عن مـجاهد, فـي قوله: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ قال: صوافّ بـين أوظافها.
حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: صَوَافّ قال: قـيام صواف علـى ثلاث قوائم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ قال: بـين وظائفها قـياما.
19055ـ حدثنا ابن البرقـي, قال: حدثنا ابن أبـي مريـم, قال: أخبرنا يحيى بن أيوب, عن خالد بن يزيد, عن ابن أبـي هلال, عن نافع, عن عبد الله: أنه كان ينـحر البُدن وهي قائمة مستقبلة البـيت تصفّ أيديها بـالقـيود, قال: هي التـي ذكر الله: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ.
19056ـ حدثنا ابن حميد, قال: ثنـي جرير, عن منصور, عن رجل, عن أبـي ظبـيان, عن ابن عبـاس, قال: قلت له: قول الله فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ؟ قال: إذا أردت أن تنـحر البدنة فـانـحرها, وقل: الله أكبر, لا إله إلا الله, اللهم منك ولك, ثم سمّ ثم انـحرها. قلت: فأقول ذلك للأضحية؟ قال: وللأضحية.
ذكر من تأوّله بتأويـل من قرأه: «صَوَافِـيَ» بـالـياء:
19057ـ حدثنا ابن عبد الأعلـىء, قال: حدثنا الـمعتـمر, عن أبـيه, عن الـحسن أنه قال: «فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافِـيَ» قال: مُخْـلَصين.
قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, قال: قال الـحسن: «صَوَافِـيَ»: خالصة.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, قال: قال الـحسن: «صَوَافِـيَ»: خالصة لله.
19058ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن قـيس بن مسلـم, عن شقـيق الضبـيّ: «فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافِـيَ» قال: خالصة.
19059ـ قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا أيـمن بن نابل, قال: سألت طاوسا عن قوله: «فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافِـيَ» قال: خالصا.
19060ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: «فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافِـيَ» قال: خالصة لـيس فـيها شريك كما كان الـمشركون يفعلون, يجعلون لله ولاَلهتهم صوافـي صافـية لله تعالـى.
ذكر من تأوّله بتأويـل من قرأه «صَوَافِنَ»:
19061ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فـي حرف ابن مسعود: «فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافنَ»: أي معقلة قـياما.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة: فـي حرف ابن مسعود: «فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافنَ» قال: أي معقلة قـياما.
19062ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد, قال: من قرأها «صَوَافِنَ» قال: معقولة. قال: ومن قرأها: صَوَافّ قال: تصفّ بـين يديها.
19063ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فـاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَـيْها صَوَافّ يعنـي صوافن, والبدنة إذا نـحرت عقلت يد واحدة, فكانت علـى ثلاث, وكذلك تُنـحر.
قال أبو جعفر: وقد تقدم بـيان أولـى هذه الأقوال بتأويـل قوله: صَوَافّ وهي الـمصطفة بـين أيديها الـمعقولة إحدى قوائمها.
وقوله: فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها يقول: فإذا سقطت فوقعت جنوبها إلـى الأرض بعد النـحر, فَكُلُوا مِنْها وهو من قولهم: قد وجبت الشمس: إذا غابت فسقطت للتغيب, ومنه قول أوس ابن حجر:
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19064ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: ثنـي عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها سقطت إلـى الأرض.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19065ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, فـي قوله: فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها قال: إذا فرغت ونُـحِرت.
19066ـ حدثنـي مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبـيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد: فإذَا وَجَبَتْ نـحرت.
19067ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها قال: إذا نـحرت.
19068ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: فإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُها قال: فإذا ماتت.
وقوله: فَكُلُوا مِنْها وهذا مخرجه مخرج الأمر ومعناه الإبـاحة والإطلاق يقول الله: فإذا نـحرت فسقطت ميتة بعد النـحر فقد حلّ لكم أكلها, ولـيس بأمر إيجاب.
وكان إبراهيـم النـخعي يقول فـي ذلك ما:
19069ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم, قال: الـمشركون كانوا لا يأكلون من ذبـائحهم, فرخص للـمسلـمين, فأكلوا منها, فمن شاء أكل ومن شاء لـم يأكل.
19070ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مؤمل, قال: حدثنا سفـيان, عن حصين, عن مـجاهد, قال: إن شاء أكل وإن شاء لـم يأكل, فهي بـمنزلة: فإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا.
19071ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس: فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ يقول: يأكل منها ويطعم.
19072ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا يونس, عن الـحسن. وأخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم, وأخبرنا حجاج, عن عطاء. وأخبرنا حصين, عن مـجاهد, فـي قوله: فَكُلُوا مِنْها قال: إن شاء أكل وإن شاء لـم يأكل, قال مـجاهد: هي رخصة, هي كقوله: فإذَا قُضِيَتِ الصّلاةُ فـانْتَشِرُوا فِـي الأرْضِ ومثل قوله: وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا, وقوله: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ يقول: فأطعموا منها القانع.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالقانع والـمعترّ, فقال بعضهم: القانع الذي يقنع بـما أعطي أو بـما عنده ولا يسأل, والـمعترّ: الذي يتعرّض لك أن تطعمه من اللـحم ولا يسأل. ذكر من قال ذلك:
19073ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: الـمستغنـي بـما أعطيته وهو فـي بـيته, والـمعترّ: الذي يتعرّض لك ويـلـمّ بك أن تطعمه من اللـحم ولا يسأل. وهؤلاء الذين أمر أن يطعموا من البُدن.
19074ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: القانع: جارك الذي يقنع بـما أعطيته, والـمعترّ: الذي يتعرّض لك ولا يسألك.
19075ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي أبو صخر, عن القرظي أنه كان يقول فـي هذه الاَية: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ القانع: الذي يقنع بـالشيء الـيسير يرضى به, والـمعترّ: الذي يـمرّ بجانبك لا يسأل شيئا فذلك الـمعترّ.
وقال آخرون: القانع: الذي يقنع بـما عنده ولا يسأل والـمعترّ: الذي يعتريك فـيسألك. ذكر من قال ذلك:
19076ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا أبو صالـح, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ بن أبـي طلـحة, عن ابن عبـاس, قوله: القانِعَ والـمُعْتَرّ يقول: القانع الـمتعفف والـمُعْتَرّ يقول: السائل.
19077ـ حدثنا ابن أبـي الشوارب, قال: حدثنا عبد الواحد, قال: حدثنا خصيف, قال: سمعت مـجاهدا يقول: القانع: أهل مكة والـمعترّ: الذي يعتريك فـيسألك.
حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا عطاء, عن خصيف, عن مـجاهد مثله.
19078ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مسلـم بن إبراهيـم, قال: ثنـي كعب بن فروخ, قال: سمعت قَتادة يحدث, عن عكرمة, فـي قوله: القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: الذي يقعد فـي بـيته, والـمعترّ: الذي يسأل.
19079ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة, قال: القانع: الـمتعفف الـجالس فـي بـيته والـمعترّ: الذي يعتريك فـيسألك.
حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: الطامع بـما قِبلك ولا يسألك والـمعترّ: الذي يعتريك ويسألك.
19080ـ حدثنـي نصر بن عبد الرحمن, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن سفـيان, عن منصور, عن مـجاهد وإبراهيـم قالا: القانع: الـجالس فـي بـيته والـمعترّ: الذي يسألك.
19081ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا سعيد, عن قَتادة فـي القانع والـمعترّ, قال: القانع: الذي يقنع بـما فـي يديه والـمعترّ: الذي يعتريك, ولكلـيهما علـيك حقّ يا ابن آدم.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن مـجاهد: فَكُلُوا منْها وأطْعمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع الذي يجلس فـي بـيته. والـمعترّ: الذي يعتريك.
وقال آخرون: القانع: هو السائل, والـمعترّ: هو الذي يعتريك ولا يسأل. ذكر من قال ذلك:
19082ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا يونس, عن الـحسن, قال: القانع: الذي يقنع إلـيك ويسألك والـمعترّ: الذي يتعرّض لك ولا يسألك.
19083ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الـحسن, فـي هذه الاَية: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: الذي يقنع, والـمعترّ: الذي يعتريك. قال: وقال الكلبـي: القانع: الذي يسألك والـمعترّ: الذي يعتريك, يتعرّض ولا يسألك.
حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي, قال: حدثنا الـمـحاربـي, عن سفـيان, عن يونس, عن الـحسن, فـي قوله: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: الذي يسألك, والـمعترّ: الذي يتعرّض لك.
19084ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, عن أبـيه, قال: قال سعيد بن جُبـير: القانع: السائل.
19085ـ حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي, قال: ثنـي غالب, قال: ثنـي شريك, عن فرات القزاز, عن سعيد بن جُبـير, فـي قوله: القانِعَ قال: هو السائل, ثم قال: أما سمعت قول الشماخ.
حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, قال: أخبرنا يونس, عن الـحسن, أنه قال فـي قوله: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: الذي يقنع إلـيك يسألك, والـمعترّ: الذي يريك نفسه ويتعرّض لك ولا يسألك.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا هشام, قال: أخبرنا منصور ويونس, عن الـحسن, قال: القانع: السائل, والـمعترّ: الذي يتعرّض ولا يسأل.
19086ـ حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عبد الله بن عياش, قال: قال زيد بن أسلـم: القانع: الذي يسأل الناس.
وقال آخرون: القانع: الـجار, والـمعترّ: الذي يعتريك من الناس. ذكر من قال ذلك:
19087ـ حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا ابن إدريس, قال: سمعت لـيثا, عن مـجاهد, قال: القانع: جارك وإن كان غنـيّا, والـمعترّ: الذي يعتريك.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ابن أبـي نـجيح, قال: قال مـجاهد, فـي قوله: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: جارك الغنـيّ, والـمعترّ: من اعتراك من الناس.
19088ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: أخبرنا مغيرة, عن إبراهيـم, فـي قوله: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ أنه قال: أحدهما السائل, والاَخر الـجار.
وقال آخرون: القانع: الطوّاف, والـمعترّ: الصديق الزائر. ذكر من قال ذلك:
19089ـ حدثنـي مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكم, قال: ثنـي أبـي وشعيب بن اللـيث, عن اللـيث, عن خالد بن يزيد, عن ابن أبـي هلال, قال: قال زيد بن أسلـم, فـي قول الله تعالـى: القانِعَ والـمُعْتَرّ فـالقانع: الـمسكين الذي يطوف, والـمعترّ: الصديق والضعيف الذي يزور.
وقال آخرون: القانع: الطامع, والـمعترّ: الذي يعترّ بـالبدن. ذكر من قال ذلك:
19090ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: القانِعَ قال: الطامع والـمعترّ: من يعترّ بـالبدن من غنـيّ أو فقـير.
19091ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: أخبرنـي عمر بن عطاء, عن عكرِمة, قال: القانع: الطامع.
وقال آخرون: القانع: هو الـمسكين, والـمعترّ: الذي يتعرّض للـحم. ذكر من قال ذلك:
19092ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْتَرّ قال: القانع: الـمسكين, والـمعترّ: الذي يعترّ القوم للـحمهم ولـيس بـمكسين, ولا تكون له ذبـيحة, يجيء إلـى القوم من أجل لـحمهم, والبـائس الفقـير: هو القانع.
وقال آخرون بـما:
19093ـ حدثنا به ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن فرات, عن سعيد بن جُبـير, قال: القانع: الذي يقنع, والـمعترّ: الذي يعتريك.
19094ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا سفـيان, عن يونس, عن الـحسن بـمثله.
19095ـ قال: حدثنا سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم ومـجاهد: القانِعَ والـمُعْتَرّ القانع: الـجالس فـي بـيته, والـمعترّ: الذي يتعرّض لك.
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: عنـي بـالقانع: السائل لأنه لو كان الـمعنـيّ بـالقانع فـي هذا الـموضع الـمكتفـي بـما عنده والـمستغنـي به, لقـيـل: وأطعموا القانع والسائل, ولـم يقل: وأطعموا القانع والـمعترّ. وفـي إتبـاع ذلك قوله: والـمعترّ الدلـيـل الواضح علـى أن القانع معنـيّ به السائل, من قولهم: قنع فلان إلـى فلان, بـمعنى سأله وخضع إلـيه, فهو يقنع قنوعا ومنه قول لبـيد:
يقول تعالـى ذكره: (لن) يصل إلـى الله لـحوم بدنكم ولا دماؤها, ولكن يناله اتقاؤكم إياه إن اتقـيتـموه فـيها فأردتـم بها وجهه وعملتـم فـيها بـما ندبكم إلـيه وأمركم به فـي أمرها وعظمتـم بها حرماته.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19096ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا يحيى, عن سفـيان, عن منصور, عن إبراهيـم, فـي قول الله: لَنْ يَنالَ اللّهَ لُـحُومُها وَلا دِماؤُها وَلَكِنْ يَنالُهُ التّقْوَى مِنْكُمْ قال: ما أريد به وجه الله.
19097ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لَنْ يَنالَ اللّهَ لُـحُومُها وَلا دِماؤُها وَلَكنْ يَنالُهُ التّقْوَى مِنْكُمْ قال: إن اتقـيت الله فـي هذه البُدن, وعملت فـيها لله, وطلبت ما قال الله تعظيـما لشعائر الله ولـحرمات الله, فإنه قال: وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ قال: وَمَنْ يُعَظّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبّهِ قال: وجعلته طيبـا, فذلك الذي يتقبل الله. فأما اللـحوم والدماء, فمن أين تنال الله؟
وقوله: كَذلكَ سَخّرَها لَكُمْ يقول: هكذا سخر لكم البُدن لِتُكُبّرُوا اللّهَ عَلـى ما هَداكُمْ يقول: كي تعظموا الله علـى ما هداكم, يعنـي علـى توفـيقه إياكم لدينه وللنسك فـي حجكم. كما:
19098ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: لِتُكَبّرُوا اللّهَ عَلـى ما هَداكُمْ قال: علـى ذبحها فـي تلك الأيام.
وَبَشّرِ الـمُـحْسِنِـينَ يقول: وبشّر يا مـحمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا فـي طاعتهم إياه فـي الدنـيا بـالـجنة فـي الاَخرة.
يقول تعالـى ذكره: إن الله يدفع غائلة الـمشركين عن الذين آمنوا بـالله وبرسوله, إن الله لا يحبّ كلّ خوان يخون الله فـيخالف أمره ونهيه ويعصيه ويطيع الشيطان كَفُورٍ يقول: جَحود لنعمه عنده, لا يعرف لـمنعمها حقه فـيشكره علـيها. وقـيـل: إنه عنـي بذلك دفع الله كفـار قريش عمن كان بـين أظهرهم من الـمؤمنـين قبل هجرتهم.
يقول تعالـى ذكره: أَذن الله للـمؤمنـين الذين يقاتلون الـمشركين فـي سبـيـله بأن الـمشركين ظلـموهم بقتالهم.
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء الـمدينة: أُذِنَ بضم الألف, يُقاتَلُونَ بفتـح التاء بترك تسمية الفـاعل فـي «أُذِنَ» و«يُقاتَلُون» جميعا. وقرأ ذلك بعض الكوفـيـين وعامة قرّاء البصرة: أُذِنَ بترك تسمية الفـاعل, و«يُقاتِلُونَ» بكسر التاء, بـمعنى يقاتل الـمأذون لهم فـي القتال الـمشركين. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين وبعض الـمكيـين: «أَذِنَ» بفتـح الألف, بـمعنى: أذن الله, و«يُقاتِلُونَ» بكسر التاء, بـمعنى: إن الذين أذن الله لهم بـالقتال يقاتلون الـمشركين. وهذه القراءات الثلاث متقاربـات الـمعنى لأن الذين قرءوا أُذِنَ علـى وجه ما لـم يسمّ فـاعله يرجع معناه فـي التأويـل إلـى معنى قراءة من قرأه علـى وجه ما سمي فـاعله. وإن من قرأ «يُقاتِلونَ ويُقاتَلُونَ» بـالكسر أو الفتـح, فقريب معنى أحدهما من معنى الاَخر وذلك أن من قاتل إنسانا فـالذي قاتله له مقاتل, وكل واحد منهما مقاتل. فإذ كان ذلك كذلك فبأية هذه القراءات قرأ القاريء فمصيب الصواب.
غير أن أحبّ ذلك إلـيّ أن أقرأ به: «أَذِنَ» بفتـح الألف, بـمعنى: أذن الله, لقرب ذلك من قوله: إنّ اللّهَ لا يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ أذن الله فـي الذين لا يحبهم للذين يقاتلونهم بقتالهم, فـيردّ «أَذنَ» علـى قوله: إنّ اللّهَ لا يُحِبّ, وكذلك أحبّ القراءات إلـيّ فـي «يُقاتِلُونَ» كسر التاء, بـمعنى: الذين يقاتلون من قد أخبر الله عنهم أنه لا يحبهم, فـيكون الكلام متصلاً معنى بعضه ببعض.
وقد اختُلف فـي الذين عُنوا بـالإذن لهم بهذه الاَية فـي القتال, فقال بعضهم: عنـي به: نبـيّ الله وأصحابه. ذكر من قال ذلك:
19099ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا وَإنّ اللّهَ عَلـى نَصْرِهمْ لَقَدِيرٌ يعنـي مـحمدا وأصحابه إذا أُخرجوا من مكة إلـى الـمدينة يقول الله: فإنّ اللّهَ عَلـى نَصْرِهمْ لَقَدِيرٌ وقد فعل.
19100ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا سفـيان, عن الأعمش, عن مسلـم البطين, عن سعيد بن جُبـير, قال: لـما خرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم من مكة, قال رجل: أخرجوا نبـيهم فنزلت: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا... الاَية, الّذِينَ أخرِجُوا منْ دِيارِهمْ بغيرِ حقَ النبـيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
19101ـ حدثنا يحيى بن داود الواسطي, قال: حدثنا إسحاق بن يوسف, عن سفـيان, عن الأعمش, عن مسلـم, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما خرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبـيهم, إنا لله وإنا إلـيه راجعون, لـيهلكُنّ قال ابن عبـاس: فأنزل الله: أُذِنَ للّذِينَ يَقاتَلونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا وَإنّ اللّهَ عَلـى نَصْرِهمْ لَقَدِيرٌ قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال. وهي أوّل آية نزلت.
قال ابن داود: قال ابن إسحاق: كانوا يقرءون: أُذِنَ ونـحن نقرأ: «أَذِنَ».
19102ـ حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا إسحاق, عن سفـيان, عن الأعمش, عن مسلـم, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما خرج النبـيّ صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نـحوه, إلا أنه قال: فقال أبو بكر: قد علـمت أنه يكون قتال. وإلـى هذا الـموضع انتهى حديثه, ولـم يزد علـيه.
حدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي, قال: حدثنا مـحمد بن يوسف, قال: حدثنا قـيس بن الربـيع, عن الأعمش, عن مسلـم, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: لـما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, قال أبو بكر: إنا لله وإنا إلـيه راجعون, أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله لـيهلكُنّ جميعا فلـما نزلت: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا... إلـى قوله: الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ عرف أبو بكر أنه سيكون قتال.
19103ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا قال: أذن لهم فـي قتالهم بعد ما عفـا عنهم عشر سنـين. وقرأ: الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ وقال: هؤلاء الـمؤمنون.
19104ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ.
وقال آخرون: بل عُنـي بهذه الاَية قوم بأعيانهم كانوا خرجوا من دار الـحرب يريدون الهجرة, فُمِنُعوا من ذلك. ذكر من قال ذلك:
19105ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, فـي قول الله: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا قال: أناس مؤمنون خرجوا مهاجرين من مكة إلـى الـمدينة, فكانوا يـمنعون, فأذن اللّهِ للـمؤمنـين بقتال الكفـار, فقاتلوهم.
19106ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا قال: ناس من الـمؤمنـين خرجوا مهاجرين من مكة إلـى الـمدينة, وكانوا يـمنعون, فأدركهم الكفـار, فأذن للـمؤمنـين بقتال الكفـار فقاتلوهم. قال ابن جُرَيج: يقول: أوّل قتال أذن الله به للـمؤمنـين.
19107ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فـي حرف ابن مسعود: «أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ فـي سَبِـيـلِ اللّهِ» قال قَتادة: وهي أوّل آية نزلت فـي القتال, فأذن لهم أن يقاتلوا.
19108ـ حدثنا الـحَسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, فـي قوله: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا قال: هي أوّل آية أنزلت فـي القتال, فأذن لهم أن يقاتلوا.
وقد كان بعضهم يزعم أَن الله إنـما قال: أذن للذين يقاتلون بـالقتال من أجل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, كانوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي قتل الكفـار إذَا آذوهم واشتدّوا علـيهم بـمكة قبل الهجرة غيـلة سرّا فأنزل الله فـي ذلك: إنّ اللّهَ لا يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ فَلَـمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلـى الـمدينة, أطلق لهم قتلهم وقتالهم, فقال: أُذِنَ للّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنّهُمْ ظُلِـمُوا. وهذا قول ذكر عن الضحاك بن مزاحم من وجه غير ثبت.
وقوله: وَإنّ اللّهَ عَلـى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ يقول جلّ ثناؤه: وإن الله علـى نصر الـمؤمنـين الذين يقاتلون فـي سبـيـل الله لقادر, وقد نصرهم فأعزّهم ورفعهم وأهلك عدوّهم وأذلهم بأيديهم.
يقول تعالـى ذكره: أذن للذين يقاتلون الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ ف «الذين» الثانـية ردّ علـى «الذين» الأولـى. وعنى بـالـمخرجين من دورهم: الـمؤمنـين الذين أخرجهم كفـار قريش من مكة. وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم علـى الإيـمان بـالله ورسوله, وسبّهم بعضهم بألسنتهم ووعيدهم إياهم, حتـى اضطرّوهم إلـى الـخروج عنهم. وكان فعلهم ذلك بهم بغير حقّ لأنهم كانوا علـى بـاطل والـمؤمنون علـى الـحقّ, فلذلك قال جلّ ثناؤه: الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بغَيْرِ حَقّ. وقوله: إلا أنْ يَقُولُوا رَبّنا اللّهُ يقول تعالـى ذكره: لـم يخرجوا من ديارهم إلا بقولهم: ربنا الله وحده لا شريك له ف «أنْ» فـي موضع خفض ردّا علـى البـاء فـي قوله: بِغَيْرِ حَقّ, وقد يجوز أن تكون فـي موضع نصب علـى وجه الاستثناء.
وقوله: ولَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: ولولا دفع الله الـمشركين بـالـمسلـمين. ذكر من قال ذلك:
19109ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ دفع الـمشركين بـالـمسلـمين.
وقال آخرون: معنى ذلك: ولولا القتال والـجهاد فـي سبـيـل الله. ذكر من قال ذلك:
19110ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلَوْلا دَفْعُ اللّهَ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قال: لولا القتال والـجهاد.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين. ذكر من قال ذلك:
19111ـ حدثنا إبراهيـم بن سعيد, قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيـم, عن سيف بن عمرو, عن أبـي روق, عن ثابت بن عوسجة الـحضْرميّ, قال: حدثنـي سبعة وعشرون من أصحاب علـيّ وعبد الله منهم لاحق بن الأقمر, والعيزار بن جرول, وعطية القرظيّ, أن علـيّا رضي الله عنه قال: إنـما أنزلت هذه الاَية فـي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لولا دفـاع الله بأصحاب مـحمد عن التابعين لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبـيَعٌ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لولا أن الله يدفع بـمن أوجب قبول شهادته فـي الـحقوق تكون لبعض الناس علـى بعض عمن لا يجوز قبول شهادته وغيره, فأحيا بذلك مال هذا ويوقـي بسبب هذا إراقة دم هذا, وتركوا الـمظالـم من أجله, لتظالَـمَ النّاسُ فُهدمت صوامع. ذكر من قال ذلك:
19112ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يقول: دفع بعضهم بعضا فـي الشهادة, وفـي الـحقّ, وفـيـما يكون من قبل هذا. يقول: لولاهم لأهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله تعالـى ذكره أخبر أنه لولا دفـاعه الناس بعضهم ببعض, لهُدم ما ذكر, من دفعه تعالـى ذكره بعضَهم ببعض, وكفّه الـمشركين بـالـمسلـمين عن ذلك ومنه كفه ببعضهم التظالـم, كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالـم بـينهم ومنه كفّه لـمن أجاز شهادته بـينهم ببعضهم عن الذهاب بحقّ من له قِبله حق, ونـحو ذلك. وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض, لولا ذلك لتظالـموا, فهدم القاهرون صوامع الـمقهورين وبـيَعهم وما سمّى جلّ ثناؤه. ولـم يضع الله تعالـى دلالة فـي عقل علـى أنه عنـي من ذلك بعضا دون بعض, ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسلـيـم له, فذلك علـى الظاهر والعموم علـى ما قد بـيّنته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا.
وقوله: لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالصوامع, فقال بعضهم: عُنـي بها صوامع الرهبـان. ذكر من قال ذلك:
19113ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن رُفـيع فـي هذه الاَية: لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال: صوامع الرهبـان.
19114ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال: صوامع الرهبـان.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال: صوامع الرهبـان.
19115ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ قال: صوامع الرهبـان.
19116ـ حُدثت عن الـحسين, قال: حدثنا سمعت أبـا معاذ, يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول: فـي قوله: لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وهي صوامع الصغار يبنونها.
وقال آخرون: بل هي صوامع الصابئين. ذكر من قال ذلك:
19117ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: صَوَامِعُ قال: هي للصابئين.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: لَهُدّمَتْ. فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة: «لَهُدِمَتْ» خفـيفة. وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة والبصرة: لَهُدّمَتْ بـالتشديد بـمعنى تكرير الهدم فـيها مرّة بعد مرّة. والتشديد فـي ذلك أعجب القراءتـين إلـيّ. لأن ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك.
وأما قوله وَبِـيَعٌ فإنه يعنـي بها: بـيع النصارى.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي ذلك, فقال بعضهم مثل الذي قلنا فـي ذلك. ذكر من قال ذلك:
19118ـ حدثنـي مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, عن رُفـيع: وَبِـيَعٌ قال: بـيع النصارى.
19119ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: وَبِـيَعٌ للنصارى.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.
19120ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول: البِـيَعُ: بـيع النصارى.
وقال آخرون: عُنـي بـالبـيع فـي هذا الـموضع: كنائس الـيهود. ذكر من قال ذلك:
19121ـ حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قال: وَبِـيَعٌ قال: وكنائس.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19122ـ وحدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَبِـيَعٌ قال: البِـيَعُ الكنائس.
قوله: وَصَلَوَاتٌ اختلف أهل التأويـل فـي معناه, فقال بعضهم: عنـي بـالصلوات الكنائس. ذكر من قال ذلك:
19123ـ حدثنـي مـحمد سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَصَلَوَاتٌ قال: يعنـي بـالصلوات الكنائس.
19124ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَصَلَوَاتٌ: كنائس الـيهود, ويسمون الكنـيسة صَلُوتَا.
19125ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: وَصَلَوَاتٌ كنائس الـيهود.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
وقال آخرون: عنـي بـالصلوات مساجد الصابئين. ذكر من قال ذلك:
19126ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الأعلـى, قال: حدثنا داود, قال: سألت أبـا العالـية عن الصلوات, قال: هي مساجد الصابئين.
19127ـ قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن رُفـيع, نـحوه.
وقال آخرون: هي مساجد للـمسلـمين ولأهل الكتاب بـالطرق. ذكر من قال ذلك:
19128ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: وَصَلَوَاتٌ قال: مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بـالطرق.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, نـحوه.
19129ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَصَلَوَاتٌ قال: الصلوات صلوات أهل الإسلام, تنقطع إذا دخـل العدوّ علـيهم, انقطعت العبـادة, والـمساجد تهدم, كما صنع بختنصر.
وقوله: وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِـيها اسْمُ اللّهِ كَثِـيرا اختلف فـي الـمساجد التـي أريدت بهذا القول, فقال بعضهم: أريد بذلك مساجد الـمسلـمين. ذكر من قال ذلك:
19130ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الوهاب, قال: حدثنا داود, عن رُفـيع, قوله: وَمَساجِدُ قال: مساجد الـمسلـمين.
19131ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, قال: حدثنا معمر, عن قَتادة: وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِـيها اسْمُ اللّهِ كَثِـيرا قال: الـمساجد: مساجد الـمسلـمين يذكر فـيها اسم الله كثـيرا.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتادة, نـحوه.
وقال آخرون: عنـي بقوله: وَمَساجِدُ: الصوامع والبـيع والصلوات. ذكر من قال ذلك:
19132ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: وَمَساجِدُ يقول فـي كلّ هذا يذكر اسم الله كثـيرا, ولـم يخصّ الـمساجد.
وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: الصلوات لا تهدم, ولكن حمله علـى فعل آخر, كأنه قال: وتركت صلوات. وقال بعضهم: إنـما يعنـي: مواضع الصلوات. وقال بعضهم: إنـما هي صلوات, وهي كنائس الـيهود, تُدعى بـالعبرانـية: صَلُوتَا.
وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: لهدمت صوامع الرهبـان وبِـيعَ النصارى, وصلوات الـيهود, وهي كنائسهم, ومساجد الـمسلـمين التـي يذكر فـيها اسم الله كثـيرا.
وإنـما قلنا هذا القول أولـى بتأويـل ذلك لأن ذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب الـمستفـيض فـيهم, وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فـيـما وجهه إلـيه مَنْ وجهه إلـيه.
وقوله: وَلَـيَنْصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يقول تعالـى ذكره: ولـيعيننّ الله من يقاتل فـي سبـيـله, لتكون كلـمته العلـيا علـى عدوّه فَنْصُر الله عبده: معونته إياه, ونَصْرُ العبد ربه: جهاده فـي سبـيـله, لتكون كلـمته العلـيا.
وقوله: إنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ يقول تعالـى ذكره: إن الله لقويّ علـى نصر من جاهد فـي سبـيـله من أهل ولايته وطاعته, عزيز فـي مُلكه, يقول: منـيع فـي سلطانه, لا يقهره قاهر, ولا يغلبه غالب.
يقول تعالـى ذكره: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلـموا, الذين إن مكّناهم فـي الأرض أقاموا الصلاة. و«الذين» ها هنا ردّ علـى «الذين يقاتلون». ويعنـي بقوله: إنْ مَكَنّاهُمْ فِـي الأرْضِ إن وَطّنّا لهم فـي البلاد, فقهروا الـمشركين وغلبوهم علـيها, وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: إن نصرناهم علـى أعدائهم وقهروا مشركي مكة, أطاعوا الله, فأقاموا الصلاة بحدودها وآتَوُا الزّكَاةَ يقول: وأعطوا زكاة أموالهم مَنْ جعلها الله له. وأمَرُوا بـالـمَعْرُوفِ يقول: ودعوا الناس إلـى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيـمان بـالله. وَنَهَوْا عَنِ الـمُنْكَرِ يقول: ونهوا عن الشرك بـالله والعمل بـمعاصيه, الذي ينكره أهل الـحقّ والإيـمان بـالله. ولِلّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ يقول: ولله آخر أمور الـخـلق, يعنـي: أنّ إلـيه مصيرها فـي الثواب علـيها والعقاب فـي الدار الاَخرة.
وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19133ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسين الأشيب, قال: حدثنا أبو جعفر عيسى بن ماهان, الذي يقال له الرازيّ, عن الربـيع بن أنس, عن أبـي العالـية, فـي قوله: الّذِينَ إنْ مَكّنّاهُمْ فِـي الأرْضِ أقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكاةَ وأمَرُوا بـالـمَعْرُوف ونَهَوْا عَنِ الـمُنْكَرِ قال: كان أمرهم بـالـمعروف أنهم دعوا إلـى الإخلاص لله وحده لا شريك له ونهيهم عن الـمنكر أنهم نهوا عن عبـادة الأوثان وعبـادة الشيطان. قال: فمن دعا إلـى الله من الناس كلهم فقد أمر بـالـمعروف, ومن نهى عن عبـادة الأوثان وعبـادة الشيطان فقد نهى عن الـمنكر.
يقول تعالـى ذكره مسلـيا نبـيه مـحمدا صلى الله عليه وسلم عما يناله من أذى الـمشركين بـالله, وحاضّا له علـى الصبر علـى ما يـلـحقه منهم من السبّ والتكذيب. وإن يكذّبك يا مـحمد هؤلاء الـمشركون بـالله علـى ما أتـيتهم به من الـحقّ والبرهان, وما تَعِدُهم من العذاب علـى كفرهم بـالله, فذلك سنة إخوانهم من الأمـم الـخالـية الـمكذّبة رسل الله الـمشركة بـالله ومنهاجهم مِن قبلهم, فلا يصدّنك ذلك, فإن العذاب الـمهين من ورائهم ونصري إياك وأتبـاعك علـيهم آتـيهم من وراء ذلك, كما أتـى
عذابـي علـى أسلافهم من الأمـم الذين من قبلهم بعد الإمهال إلـى بلوغ الاَجال. فَقَدْ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ يعنـي مشركي قريش قوم نوح, وقوم عاد وثمود, وقوم إبراهيـم, وقوم لوط, وأصحاب مدين, وهم قوم شعيب. يقول: كذب كلّ هؤلاء رسلهم. وكُذّبَ مُوسَى فقـيـل: وكذب موسى ولـم يقل: «وقوم موسى», لأن قوم موسى بنو إسرائيـل, وكانت قد استـجابت له ولـم تكذّبه, وإنـما كذّبه فرعون وقومه من القبط. وقد قـيـل: إنـما قـيـل ذلك كذلك لأنه ولد فـيهم كما ولد فـي أهل مكة.
وقوله: فَأمْلَـيْتُ للْكافِرِينَ يقول: فأمهلت لأهل الكفر بـالله من هذه الأمـم, فلـم أعاجلهم بـالنقمة والعذاب. ثُمّ أخَذْتُهُمْ يقول: ثم أحللت بهم العقاب بعد الإملاء فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ يقول: فـانظر يا مـحمد كيف كان تغيـيري ما كان بهم من نعمة وتنكري لهم عما كنت علـيه من الإحسان إلـيهم, ألـم أبدلهم بـالكثرة قلة وبـالـحياة موتا وهلاكا وبـالعمارة خرابـا؟ يقول: فكذلك فعلـي بـمكذّبـيك من قريش, وإن أملـيت لهم إلـى آجالهم, فإنـي مُنْـجِزك وعدي فـيهم كما أنـجزت غيرك من رسلـي وعدي فـي أمـمهم, فأهلكناهم وأنـجيتهم من بـين أظهرهم.
يقول تعالـى ذكره: وكم يا مـحمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالـمون يقول: وهم يعبدون غير من ينبغي أن يعبد, ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه. وقوله: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلـى عُرُوشِها يقول: فبـاد أهلها وخـلت, وخوت من سكانها, فخربت وتداعت, وتساقطت علـى عروشها يعنـي علـى بنائها وسقوفها. كما:
19134ـ حدثنا أبو هشام الرفـاعيّ, قال: حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك: فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلـى عُرُوشِها قال: خَواؤها: خرابها, وعروشها: سقوفها.
19135ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: خاوِيَةٌ قال: خربة لـيس فـيها أحد.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة. مثله.
وقوله: وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ يقول تعالـى: فكأين من قرية أهلكناها, ومن بئر عطلناها, بإفناء أهلها وهلاك وارديها, فـاندفنت وتعطلت, فلا واردة لها ولا شاربة منها. وَمِنْ قَصْرٍ مَشِيدٍ رفـيع بـالصخور والـجصّ, قد خلا من سكانه, بـما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم, فبـادوا وبقـي قصورهم الـمشيدة خالـية منهم. والبئر والقصر مخفوضان بـالعطف علـى «القرية». وكان بعض نـحويّـي الكوفة يقول: هما معطوفـان علـى «العروش» بـالعطف علـيها خفضا, وإن لـم يحسن فـيهما, علـى أن العروش أعالـي البـيوت والبئر فـي الأرض, وكذلك القصر لأن القرية لـم تـخو علـى القصر, ولكنه أتبع بعضه بعضا كما قال: وَحُورٌ عِينٌ كأمْثالِ اللّؤْلُؤِ فمعنى الكلام علـى ما قال هذا الذي ذكرنا قوله فـي ذلك: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالـمة, فهي خاوية علـى عروشها, ولها بئر معطلة وقصر مشيد ولكن لـما لـم يكن مع البئر رافع ولا عامل فـيها, أتبعها فـي الإعراب «العروش», والـمعنى ما وصفتُ.
وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19136ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الـخُراسانـيّ, عن ابن عبـاس: وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال: التـي قد تُرِكت. وقال غيره: لا أهل لها.
19137ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال: عطلها أهلها, تركوها.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
19138ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَبِئْرٍ مُعَطّلَةٍ قال: لا أهل لها.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ فقال بعضهم: معناه: وقصر مُـجَصّص. ذكر من قال ذلك:
19139ـ حدثنـي مطر بن مـحمد الضبـي, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ, قال: حدثنا سفـيان, عن هلال بن خَبّـاب عن عكرِمة, فـي قوله: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: مـجصّص.
حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا يحيى بن يـمان, عن سفـيان, عن هلال بن خبـاب, عن عكرِمة, مثله.
حدثنـي مـحمد بن إسماعيـل الأحمسي, قال: ثنـي غالب بن فـائد, قال: حدثنا سفـيان, عن هلال بن خبـاب عن عكرِمة, مثله.
حدثنـي الـحسين بن مـحمد العنقزي, قال: ثنـي أبـي, عن أسبـاط, عن السديّ, عن عكرمة, فـي قوله: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: مـجصص.
19140ـ حدثنـي مطر بن مـحمد, قال: حدثنا كثـير بن هشام, قال: حدثنا جعفر بن برقان, قال: كنت أمشي مع عكرِمة, فرأى حائط آجرّ مُصَهْرج, فوضع يده علـيه وقال: هذا الـمشيد الذي قال الله.
19141ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا عبـاد بن العوامّ, عن هلال بن خبـاب, عن عكرمة: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: الـمـجصص. قال عكرِمة: والـجصّ بـالـمدينة يسمى الشيّد.
19142ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: بـالقِصّة أو الفضة.
19143ـ حدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: بـالقصّة يعنـي بـالـجصّ.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19144ـ حدثنا الـحسن, أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جُرَيج, عن عطاء, فـي قوله: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: مـجصص.
19145ـ حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوريّ, عن هلال بن خبـاب, عن سعيد بن جُبـير, فـي قوله: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: مُـجَصّص. هكذا هو فـي كتابـي عن سعيد بن جُبـير.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقصر رفـيع طويـل. ذكر من قال ذلك:
19146ـ حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى, قال: حدثنا مـحمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال: كان أهله شيّدوه وحصّنوه, فهلكوا وتركوه.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
19147ـ حدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عُبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ يقول: طويـل.
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب: قول من قال: عنـي بـالـمشيد الـمـجصّص, وذلك أن الشيّد فـي كلام العرب هو الـجصّ بعينه ومنه قول الراجز:
كحَبّةِ الـمَاءِ بـينَ الطيّ والشّيدِ
فـالـمشيد: إنـما هو مفعول من الشّيد ومنه قول امرىء القـيس:
يعنـي بذلك: إلا بـالبناء بـالشيد والـجندل. وقد يجوز أن يكون معنـيّا بـالـمشيد: الـمرفوع بناؤه بـالشّيدِ, فـيكون الذين قالوا: عنـي بـالـمشيد الطويـل نَـحَوْا بذلك إلـى هذا التأويـل ومنه قول عديّ بن زيد:
يقول تعالـى ذكره: أفلـم يسيروا هؤلاء الـمكذّبون بآيات الله والـجاحدون قدرته فـي البلاد, فـينظروا إلـى مصارع ضربـائهم من مكذّبـي رسل الله الذين خـلوْا من قبلهم, كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب, وأوطانهم ومساكنهم, فـيتفكرّوا فـيها ويعتبروا بها ويعلـموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها سنةَ الله فـيـمن كفر وعبد غيره وكذّب رسله, فـينـيبوا من عتوّهم وكفرهم, ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلـى الـحقّ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها حجج الله علـى خـلقه وقدرته علـى ما بـيّنا, أو آذانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا يقول: أو آذان تصغي لسماع الـحقّ فتعي ذلك وتـميز بـينه وبـين البـاطل. وقوله: فإنّها لا تَعْمَى الأبْصارُ يقول: فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ويروها, بل يبصرون ذلك بأبصارهم ولكن تعمى قلوبهم التـي فـي صدورهم عن أنصار الـحقّ ومعرفته. والهاء فـي قوله: فإنّها لا تَعْمَى هاء عماد, كقول القائل: إنه عبد الله قائم. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «فإنّه لا تَعْمَى الأبْصَارُ». وقـيـل: وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التـي فـي الصّدُورِ والقلوب لا تكون إلا فـي الصدور, توكيدا للكلام, كما قـيـل: يَقُولُون بأفْوَاهِهِمْ مَا لَـيْسَ فِـي قُلُوبِهِمْ.
يقول تعالـى ذكره: ويستعجلونك يا مـحمد مشركو قومك بـما تَعِدهم من عذاب الله علـى شركهم به وتكذيبهم إياك فـيـما أتـيتهم به من عند الله فـي الدنـيا, ولن يخـلف الله وعده الذي وعدك فـيهم من إحلال عذابه ونقمته بهم فـي عاجل الدنـيا. ففعل ذلك, ووفـى لهم بـما وعدهم, فقتلهم يوم بدر.
واختلف أهل التأويـل فـي الـيوم الذي قال جلّ ثناؤه: وَإنّ يَوْما عِنْدَ رَبّكَ كألْفِ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ أيّ يوم هو؟ فقال بعضهم: هو من الأيام التـي خـلق الله فـيها السموات والأرض. ذكر من قال ذلك:
19148ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن, قال: حدثنا إسرائيـل, عن سِماك, عن عكرِمة, عن ابن عبـاس: وَإنّ يَوْما عِنْدَ رَبّكَ كألْفِ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: من الأيام التـي خـلق الله فـيها السموات والأرض.
19149ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: وَإنّ يَوْما عِنْدَ رَبّكَ... الاَية, قال: هي مثل قوله فـي «الـم تَنْزِيـلُ» سواء, هو هو الاَية.
وقال آخرون: بل هو من أيام الاَخرة. ذكر من قال ذلك:
19150ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرِمة, عن ابن عبـاس, قال: مقدار الـحساب يوم القـيامة ألف سنة.
19151ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن عُلَـية, قال: حدثنا سعيد الـجريريّ, عن أبـي نَضْرة عن سمير بن نهار, قال: قال أبو هريرة: يدخـل فقراء الـمسلـمين الـجنة قبل الأغنـياء بـمقدار نصف يوم. قلت: وما نصف يوم؟ قال: أو ما تقرأ القرآن؟ قلت: بلـى. قال: وَإنّ يَوْما عِنْدَ رَبّكَ كألْفِ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ.
19152ـ حدثنا ابن بشار, قال: ثنـي عبد الرحمن, قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبـي بشر, عن مـجاهد: وَإنّ يَوْما عِنْدَ رَبّكَ كألْفِ سَنَة قال: من أيام الاَخرة.
19153ـ حدثنا مـحمد بن الـمثنى, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن سماك, عن عكرمة, أنه قال فـي هذه الاَية: وَإنّ يَوْما عِنْدَ رَبّكَ كألْفِ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ قال: هذه أيام الاَخرة. وفـي قوله: ثُمّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِـمّا تَعُدّونَ قال: يوم القـيامة وقرأ: إنّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا وَنَرَاهُ قَرِيبـا.
وقد اختلف فـي وجه صرف الكلام من الـخبر عن استعجال الذين استعجلوا العذاب إلـى الـخبر عن طول الـيوم عند الله, فقال بعضهم: إن القوم استعجلوا العذاب فـي الدنـيا, فأنزل الله: وَلَنْ يُخْـلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ فـي أن ينزل ما وعدهم من العذاب فـي الدنـيا, وإن يوما عند ربك من عذابهم فـي الدنـيا والاَخرة كألف سنة مـما تعدّون فـي الدنـيا.
وقال آخرون: قـيـل ذلك كذلك إعلاما من الله مستعجلـيه العذاب أنه لا يعجل, ولكنه يُـمْهل إلـى أجل أجّله, وأن البطيء عندهم قريب عنده, فقال لهم: مقدار الـيوم عندي ألف سنة مـما تعدّونه أنتـم أيها القوم من أيامكم, وهو عندكم بطيء وهو عندي قريب.
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يوما من الثقل وما يخاف كألف سنة.
والقول الثانـي عندي أشبه بـالـحقّ فـي ذلك وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر عن استعجال الـمشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالعذاب, ثم أخبر عن مبلغ قدر الـيوم عنده, ثم أتبع ذلك قوله: وكأيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أمْلَـيْتُ لَهَا وَهِيَ ظالِـمَةٌ فأخبر عن إملائه أهل
القرية الظالـمة وتركه معاجلتهم بـالعذاب, فبـين بذلك أنه عنى بقوله: وَإنّ يَوْما عِنْدَ رَبّكَ كألْفِ سَنَةٍ مِـمّا تَعُدّونَ نفـي العجلة عن نفسه ووصفها بـالأناة والانتظار. وإذ كان ذلك كذلك, كان تأويـل الكلام: وإن يوما من الاَيام التـي عند الله يوم القـيامة, يوم واحد كألف سنة من عددكم, ولـيس ذلك عنده ببعيد وهو عندكم بعيد فلذلك لا يعجل بعقوبة من أراد عقوبته حتـى يبلغ غاية مدّته.
يقول تعالـى ذكره: وكأيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أمْلَـيْتُ لَهَا يقول: أمهلتهم وأخّرت عذابهم, وهم بـالله مشركون ولأمره مخالفون وذلك كان ظلـمهم الذي وصفهم الله به جلّ ثناؤه فلـم أعجَلْ بعذابهم. ثُمّ أخَذْتُها يقول: ثم أخذتها بـالعذاب, فعذّبتها فـي الدنـيا بإحلال عقوبتنا بهم. وإلـيّ الـمَصِيرُ يقول: وإلـيّ مصيرهم أيضا بعد هلاكهم, فـيـلقون من العذاب حينئذ ما لا انقطاع له يقول تعالـى ذكره: فكذلك حال مستعجلـيك بـالعذاب من مشركي قومك, وإن أملـيت لهم إلـى آجالهم التـي أجلتها لهم, فإنـي آخِذُهم بـالعذاب فقاتِلُهم بـالسيف ثم إلـيّ مصيرهم بعد ذلك فموجعهم إذن عقوبة علـى ما قدّموا من آثامهم.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد لـمشركي قومك الذين يجادلونك فـي الله بغير علـم, اتبـاعا منهم لكل شيطان مريد: يا أيها النّاسُ إنّـمَا أنا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِـينٌ أنذركم عقاب الله أن ينزل بكم فـي الدنـيا وعذابه فـي الاَخرة أن تَصْلَوْه مُبِـينٌ يقول: أبـين لكم إنذاري ذلك وأظهره لتنـيبوا من شرككم وتـحذروا ما أنذركم من ذلك لا أملك لكم غير ذلك, فأما تعجيـل العقاب وتأخيره الذي تستعجلوننـي به فإلـى الله, لـيس ذلك إلـيّ ولا أقدر علـيه. ثم وصف نذارته وبشارته, ولـم يجر للبشارة ذكر, ولـما ذُكِرت النذارة علـى عمل عُلـم أن البشارة علـى خلافه, فقال: والّذِينَ آمَنُوا بـالله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِـحَاتِ منكم أيها الناس ومن غيركم, لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يقول: لهم من الله ستر ذنوبهم التـي سلفت منهم فـي الدنـيا علـيهم فـي الاَخرة. وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ يقول: ورزق حسن فـي الـجنة كما:
19154ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قوله: فـالّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِـحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيـمٌ قال: الـجنة.
وقوله: وَالّذِينَ سَعَوْا فِـي آياتِنا مُعاجِزِينَ يقول: والذين عملوا فـي حججنا فصدّوا عن اتبـاع رسولنا والإقرار بكتابنا الذي أنزلناه. وقال فـي آياتَنِا فأدخـلت فـيه «فـي» كما يقال: سعى فلان فـي أمر فلان.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: مُعاجِزِينَ فقال بعضهم: معناه: مُشَاقّـين. ذكر من قال ذلك:
19155ـ حدثنا أحمد بن يوسف, قال: حدثنا القاسم, قال: حدثنا حجاج, عن عثمان بن عطاء, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, أنه قرأها: مُعاجِزِينَ فـي كلّ القرآن, يعنـي بألف, وقال: مشاقّـين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم ظنوا أنهم يعجزون الله فلا يقدر علـيهم. ذكر من قال ذلك:
19156ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فـي آياتِنا مُعاجِزينَ قال: كذّبوا بآيات الله فظنوا أنهم يُعْجزون الله, ولن يعجزوه.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
وهذان الوجهان من التأويـل فـي ذلك علـى قراءة من قرأه: فِـي آياتِنا مُعاجِزِينَ بـالألف, وهي قراءة عامة قرّاء الـمدينة والكوفة. وأما بعض قرّاء أهل مكة والبصرة فإنه قرأه: «مُعَجّزِينَ» بتشديد الـجيـم, بغير ألف, بـمعنى أنهم عجّزوا الناس وثَبّطوهم عن اتبـاع رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيـمان بـالقرآن. ذكر من قال ذلك كذلك من قراءته:
19157ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: مُعَجّزِينَ قال: مُبَطّئين, يبطَئون الناس عن اتبـاع النبـيّ صلى الله عليه وسلم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جَرَيج, عن مـجاهد, مثله.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان, قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء, متقاربتا الـمعنى وذلك أن من عجز عن آيات الله فقد عاجز الله, ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله والعمل بـمعاصيه وخلاف أمره. وكان من صفة القوم الذين أنزل الله هذه الاَيات فـيهم أنهم كانوا يبطئون الناس عن الإيـمان بـالله واتبـاع رسوله ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم, يحسبون أنهم يُعْجزونه ويغلبونه, وقد ضمن الله له نصره علـيهم, فكان ذلك معاجزتهم الله. فإذ كان ذلك كذلك, فبأيّ القراءتـين قرأ القارىء فمصيب الصواب فـي ذلك.
وأما الـمعاجزة فإنها الـمفـاعلة من العجز, ومعناه: مغالبة اثنـين أحدهما صاحبه أيهما يعجزه فـيغلبه الاَخر ويقهره.
وأما التعجيز: فإنه التضعيف وهو التفعيـل من العجز. وقوله: أُولَئِكَ أصْحابُ الـجَحِيـمِ يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم هم سكان جهنـم يوم القـيامة وأهلها الذين هم أهلها.
قـيـل: إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الاَية علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن الشيطان كان ألقـى علـى لسانه فـي بعض ما يتلوه مـما أنزل الله علـيه من القرآن ما لـم ينزله الله علـيه, فـاشتدّ ذلك علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتـمّ به, فسلاّه الله مـما به من ذلك بهذه الاَيات. ذكر من قال ذلك:
19158ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا حجاج, عن أبـي معشر, عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ ومـحمد بن قـيس قالا: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي ناد من أندية قريش كثـير أهله, فتـمنى يومئذ أن لا يأتـيه من الله شيء فـينفروا عنه, فأنزل الله علـيه: والنّـجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتـى إذا بلغ: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرَى ألقـى علـيه الشيطان كلـمتـين: «تلك الغرانقة العُلَـى, وإن شفـاعتهنّ لتُرْجَى», فتكلـم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد فـي آخر السورة, وسجد القوم جميعا معه, ورفع الولـيد بن الـمغيرة ترابـا إلـى جبهته فسجد علـيه, وكان شيخا كبـيرا لا يقدر علـى السجود. فرضُوا بـما تكلـم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيـي ويـميت وهو الذي يخـلق ويرزق, ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده, إذ جعلت لها نصيبـا, فنـحن معك قالا: فلـما أمسى أتاه جبرائيـل علـيهما السلام فعرض علـيه السورة فلـما بلغ الكلـمتـين اللتـين ألقـى الشيطان علـيه قال: ما جئتك بهاتـين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَيْتُ عَلـى اللّهِ وقُلْتُ عَلـى اللّهِ ما لَـمْ يَقُلْ» فأوحى الله إلـيه: وَإنْ كادُوا لَـيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذِي أوْحَيْنا إلَـيْكَ, لِتَفْتَرِيَ عَلَـيْنا غَيْرَهُ... إلـى قوله: ثُمّ لا تَـجِدُ لَكَ عَلَـيْنا نَصِيرا. فما زال مغموما مهموما حتـى نزلت علـيه: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِـيَ إلاّ إذَا تَـمَنّى ألْقَـى الشّيْطانُ فِـي أُمْنِـيّتهِ فَـيَنْسَخُ اللّهُ ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَاللّهُ عَلـيـمٌ حَكِيـمٌ. قال: فسمع من كان من الـمهاجرين بأرض الـحبشة أن أهل مكة قد أسلـموا كلهم, فرجعوا إلـى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلـينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقـى الشيطان.
19159ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلـمة, عن ابن إسحاق, عن يزيد بن زياد الـمدنـيّ, عن مـحمد بن كعب القُرظيّ قال: لـما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولّـيَ قومه عنه, وشقّ علـيه ما يرى من مبـاعدتهم ما جاءهم به من عند الله, تـمنى فـي نفسه أن يأتـيه من الله ما يقارب به بـينه وبـين قومه. وكان يسرّه, مع حبه وحرصه علـيهم, أن يـلـين له بعض ما غلُظَ علـيه من أمرهم, حين حدّث بذلك نفسه وتـمنى وأحبه, فأنزل الله: والنّـجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحبُكُمْ وَما غَوَى فلـما انتهى إلـى قول الله: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ألقـى الشيطان علـى لسانه, لـما كان يحدّث به نفسه ويتـمنى أن يأتـي به قومه: «تلك الغرانـيق العلَـى, وإن شفـاعتهن تُرْتَضى». فلـما سمعت قريش ذلك فرحوا وسرّهم, وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم, فأصاخوا له, والـمؤمنون مصدّقون نبـيهم فـيـما جاءهم به عن ربهم, ولا يتهمونه علـى خط ولا وَهَم ولا زلل. فلـما انتهى إلـى السجدة منها وختـم السورة, سجد فـيها, فسجد الـمسلـمون بسجود نبـيهم, تصديقا لـما جاء به واتبـاعا لأمره, وسجد من فـي الـمسجد من الـمشركين من قريش وغيرهم لـما سمعوا من ذكر آلهتهم, فلـم يبق فـي الـمسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الولـيد بن الـمغيرة, فإنه كان شيخا كبـيرا فلـم يستطع, فأخذ بـيده حفنة من البطحاء فسجد علـيها. ثم تفرّق الناس من الـمسجد, وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم, يقولون: قد ذكر مـحمد آلهتنا بأحسن الذكر, وقد زعم فـيـما يتلو أنها الغرانـيق العُلَـي وأن شفـاعتهنّ ترتضى وبلغت السجدة من بأرض الـحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقـيـل: أسلـمت قريش. فنهضت منهم رجال, وتـخـلّف آخرون. وأتـى جبرائيـل النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: يا مـحمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت علـى الناس ما لـم آتك به عن الله, وقلت ما لـم يُقَلْ لك فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك, وخاف من الله خوفـا كبـيرا, فأنزل الله تبـارك وتعالـى علـيه وكانَ بِهِ رَحِيـما يعزّيه ويخفّض علـيه الأمر ويخبره أنه لـم يكن قبله رسول ولا نبـيّ تـمنى كما تـمنى ولا أحبّ كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقـى فـي أمنـيته كما ألقـى علـى لسانه صلى الله عليه وسلم, فنسخ الله ما ألقـى الشيطان وأحكم آياته, أي فأنت كبعض الأنبـياء والرسل فأنزل الله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاّ إذَا تَـمَنّى ألْقَـى الشّيْطانُ فِـي أُمِنـيّتِهِ... الاَية. فأذهب الله عن نبـيه الـحزن, وأمنه من الذي كان يخاف, ونسخ ما ألقـى الشيطان علـى لسانه من ذكر آلهتهم أَنهّا الغرانـيق العُلَـى وأن شفـاعتهنّ ترتضى. يقول الله حين ذكر اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى, إلـى قوله: وكَمْ منْ مَلَكٍ فِـي السّمَوَاتِ لا تُغْنى شَفـاعَتُهُمْ شَيْئا إلاّ مِنْ بَعْدِ أنْ يَأْذَنَ اللّهِ لـمَنْ يَشاءُ وَيَرْضَى, أي فكيف تنفع شفـاعة آلهتكم عنده. فلـما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقـى علـى لسان نبـيه, قالت قريش: ندم مـحمد علـى ما كان من منزلة آلهتكم عند الله, فغير ذلك وجاء بغيره وكان ذلك الـحرفـان اللذان ألقـى الشيطان علـى لسان رسوله قد وقعا فـي فم كل مشرك, فـازدادوا شرّا إلـى ما كانوا علـيه.
19160ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا الـمعتـمر, قال: سمعت داود, عن أبـي العالـية, قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنـما جلساؤك عبد بنـي فلان ومولـى بنـي فلان, فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك, فإنه يأتـيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فـيك قال: فألقـى الشيطان فـي أمنـيته, فنزلت هذه الاَية: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال: فأجرى الشيطان علـى لسانه: «تلك الغرانـيق العُلَـى, وشفـاعتهن ترجى, مثلهن لا يُنسى». قال: فسجد النبـيّ صلى الله عليه وسلم حين قرأها, وسجد معه الـمسلـمون والـمشركون. فلـما علـم الذي أُجْرِي علـى لسانه, كبر ذلك علـيه, فأنزل الله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاّ إذَا تَـمَنّى ألْقَـى الشّيْطانُ فِـي أُمْنِـيّتِهِ... إلـى قوله: وَاللّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا أبو الولـيد, قال: حدثنا حماد بن سلـمة, عن داود بن أبـي هند, عن أبـي العالـية قال: قالت قريش: يا مـحمد إنـما يجالسك الفقراء والـمساكين وضعفـاء الناس, فلو ذكرت آلهتنا بخير لـجالسناك فإن الناس يأتونك من الاَفـاق فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النـجم فلـما انتهى علـى هذه الاَية: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى فألقـى الشيطان علـى لسانه: «وهي الغرانقة العلـى, وشفـاعتهن ترتـجى». فلـما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والـمسلـمون والـمشركون, إلا أبـا أُحَيحة سعيد بن العاص, أخذ كفّـا من تراب وسجد علـيه وقال: قد آن لابن أبـي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتـى بلغ الذين بـالـحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الـمسلـمين أن قريشا قد أسلـمت, فـاشتدّ علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقـى الشيطان علـى لسانه, فأنزل الله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ... إلـى آخر الاَية.
19161ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد بن جعفر, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير, قال: لـما نزلت هذه الاَية: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «تلك الغرانـيق العلـى, وإن شفـاعتهنّ لترتـجى». فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الـمشركون: إنه لـم يذكر آلهتكم قبل الـيوم بخير فسجد الـمشركون معه, فأنزل الله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاّ إذَا تَـمَنّى ألْقَـى الشّيْطانُ فِـي أُمْنِـيّتِهِ... إلـى قوله: عَذَابَ يَوْمٍ عَقِـيـم.
حدثنا ابن الـمثنى, قال: ثنـي عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا أبو بشر, عن سعيد بن جُبـير قال: لـما نزلت: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى, ثم ذكر نـحوه.
19162ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاّ إذَا تَـمَنّى ألْقَـى الشّيْطانُ فِـي أُمْنِـيّتِهِ إلـى قوله: وَاللّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ وذلك أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بـينـما هو يصلـي, إذ نزلت علـيه قصة آلهة العرب, فجعل يتلوها فسمعه الـمشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنَوا منه, فبـينـما هو يتلوها وهو يقول: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ألقـى الشيطان: «إن تلك الغرانـيق العلـى, منها الشفـاعة ترتـجى». فجعل يتلوها, فنزل جبرائيـل علـيه السلام فنسخها, ثم قال له: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ إلاّ إذَا تَـمَنّى ألْقَـى الشّيْطانُ فِـي أُمْنِـيّتِهِ... إلـى قوله: وَاللّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ.
19163ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيَ... الاَية أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بـمكة, أنزل الله علـيه فـي آلهة العرب, فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها. فسمع أهل مكة نبـيّ الله يذكر آلهتهم, ففرحوا بذلك, ودنوا يستـمعون, فألقـى الشيطان فـي تلاوة النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «تلك الغرانـيق العلـى, منها الشفـاعة ترتـجى». فقرأها النبـيّ صلى الله عليه وسلم كذلك, فأنزل الله علـيه: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ... إلـى: وَاللّهُ عَلِـيـمٌ حَكِيـمٌ.
19164ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي يونس, عن ابن شهاب, أنه سئل عن قوله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِـيّ... الاَية, قال ابن شهاب: ثنـي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الـحارث. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـمكة قرأ علـيهم: والنّـجْمِ إذَا هَوَى, فلـما بلغ: أفَرأيْتُـمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى قال: «إن شفـاعتهن ترتـجَى». وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلقـيه الـمشركون الذين فـي قلوبهم مرض, فسلـموا علـيه, وفرحوا بذلك, فقال لهم: «إنّـمَا ذلكَ مِنَ الشّيْطانِ». فأنزل الله: وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نِبَـيّ... حتـى بلغ: فَـيَنْسَخُ اللّهُ ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ.
فتأويـل الكلام: ولـم يرسل يا مـحمد مَنْ قَبْلك من رسول إلـى أمة من الأمـم ولا نبـيّ مـحدّث لـيس بـمرسل, إلا إذا تـمنى.
واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله «تـمنى» فـي هذا الـموضع, وقد ذكرت قول جماعة مـمن قال: ذلك التـمنـي من النبـيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من مـحبته مقاربة قومه فـي ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون, ومن قال ذلك مـحبة منه فـي بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا قرأ وتلا أو حدّث. ذكر من قال ذلك:
19165ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: إذَا تَـمنّى ألْقَـى الشّيْطانُ فِـي أُمْنِـيّتِهِ يقول: إذا حدّث ألقـى الشيطان فـي حديثه.
19166ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: إذَا تَـمَنّى قال: إذا قال.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19167ـ حُدثت عن الـحسين بن الفرج, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: إلاّ إذَا تَـمَنّى يعنـي بـالتـمنـي: التلاوة والقراءة.
وهذا القول أشبه بتأويـل الكلام, بدلالة قوله: فَـيَنْسَخُ اللّهُ ما يُـلْقـي الشّيْطانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ علـى ذلك لأن الاَيات التـي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها, لا شك أنها آيات تنزيـله, فمعلوم أن الذي ألقـي فـيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالـى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويـل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبـيّ إلا إذا تلا كتاب الله, وقرأ, أو حدّث وتكلـم, وألقـى الشيطان فـي كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو فـي حديثه الذي حدث وتكلـم. فَـيَنْسَخُ اللّهُ ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ يقول: تعالـى فـيذهب الله ما يـلقـي الشيطان من ذلك علـى لسان نبـيه ويبطله. كما:
19168ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس: فَـيَنْسَخُ اللّهُ ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ فـيبطل الله ما ألقـى الشيطان.
19169ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: فَـيَنْسَخُ اللّهُ ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ نسخ جبريـل بأمر الله ما ألقـى الشيطان علـى لسان النبـيّ صلى الله عليه وسلم, وأحكم الله آياته.
وقوله: ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ يقول: ثم يخـلص الله آيات كتابه من البـاطل الذي ألقـى الشيطان علـى لسان نبـيه. وَاللّهُ عَلِـيـمٌ بـما يحدث فـي خـلقه من حدث, لا يخفـى علـيه منه شيء. حَكِيـمٌ فـي تدبـيره إياهم وصرفه لهم فـيـما شاء وأحَبّ.
يقول تعالـى ذكره: فـينسخ الله ما يـلقـي الشيطان, ثُم يُحكم الله آياته, كي يجعل ما يـلقـي الشيطان فـي أمنـية نبـيه من البـاطل, كقول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «تلك الغرانـيق العُلَـى, وإن شفـاعتهن لُترَتَـجَى». فِتْنَةً يقول: اختبـارا يختبر به الذين فـي قلوبهم مرض من النفـاق وذلك الشكّ فـي صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقـيقة ما يخبرهم به.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19170ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم كان يتـمنى أن لا يعيب الله آلهة الـمشركين, فألقـى الشيطان فـي أمنـيته, فقال: «إن الاَلهة التـي تدعي أن شفـاعتها لترتـجى وإنها لَلْغرانـيق العُلَـى». فنسخ الله ذلك, وأحكم الله آياته: أفرأيتـمُ اللاّتَ والعُزّى حتـى بلغ: مِنْ سُلْطانٍ قال قتادة: لـما ألقـى الشيطان ما ألقـى, قال الـمشركون: قد ذكر الله آلهتهم بخير ففرحوا بذلك, فذكر قوله: لِـيَجْعَل ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ فِتْنَةً للّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, بنـحوه.
19171ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, فـي قوله: لِـيَجْعَل ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ فِتْنَةً للّذِينَ فِـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول: وللذين قست قلوبهم عن الإيـمان بـالله, فلا تلـين ولا ترعوي, وهم الـمشركون بـالله.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19172ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: والقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ قال: الـمشركون.
وقوله: وَإنّ الظّالِـمِينَ لَفِـي شِقاقٍ بَعِيدٍ يقول تعالـى ذكره: وإن مشركي قومك يا مـحمد لفـي خلاف الله فـي أمره, بعيد من الـحقّ.
يقول تعالـى ذكره: وكي يعلـم أهل العلـم بـالله أن الذي أنزله الله من آياته التـي أحكمها لرسوله ونسخ ما ألقـي الشيطان فـيه, أنه الـحقّ من عند ربك يا مـحمد فُـيؤْمِنُوا بِهِ يقول: فـيصدّقوا به. فتُـخْبِتَ له قُلُوبُهُمْ يقول: فتـخضع للقرآن قلوبهم, وتذعن بـالتصديق به والإقرار بـما فـيه. وَإنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوا إلـى صِرَاطٍ مُسْتَقِـيـمٍ وإن الله لـمرشد الذين آمنوا بـالله ورسوله إلـى الـحقّ القاصد والـحقّ الواضح, بنسخ ما ألقـي الشيطان فـي أمنـية رسوله, فلا يضرّهم كيد الشيطان وإلقاؤه البـاطل علـى لسان نبـيهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19173ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: وَلِـيَعْلَـمَ الّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّكَ قال: يعنـي القرآن.
يقول تعالـى ذكره: ولا يزال الذين كفرا بـالله فـي شكّ.
ثم اختلف أهل التأويـل فـي الهاء التـي فـي قوله: «منه» من ذكر ما هي؟ فقال بعضهم: هي من ذكر قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: «تلك الغرانـيق العُلَـى, وإن شفـاعتهن لترتـجى». ذكر من قال ذلك:
19174ـ حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا مـحمد, قال: حدثنا شعبة, عن أبـي بشر, عن سعيد بن جُبـير: وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ من قوله: «تلك الغرانـيق العلـى, وإن شفـاعتهن ترتـجى».
19175ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, فـي قوله: وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ قال: مـما جاء به إبلـيس لا يخرج من قلوبهم زادهم ضلالة.
وقال آخرون: بل هي من ذكر سجود النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي النـجم. ذكر من قال ذلك:
19176ـ حدثنا ابن الـمثنى, قال: حدثنا عبد الصمد, قال: حدثنا شعبة, قال: حدثنا أبو بشر, عن سعيد بن جُبـير: وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ قال: فـي مِرْية من سجودك.
وقال آخرون: بل هي من ذكر القرآن. ذكر من قال ذلك:
19177ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: وَلا يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ قال: من القرآن.
وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب, قول من قال: هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله: وَلِـيَعْلَـمَ الّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ أنّهُ الْـحَقّ مِنْ رَبّكَ أقرب منه من ذكر قوله: فَـيَنُسَخُ اللّهُ ما يُـلْقـي الشّيْطانُ والهاء من قوله «أنه» من ذكر القرآن, فإلـحاق الهاء فـي قوله: فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ بـالهاء من قوله: أنّهُ الـحَقّ مِنْ رَبّكَ أولـى من إلـحاقها ب «ما» التـي فـي قوله: ما يُـلْقِـي الشّيْطانُ مع بُعد ما بـينهما.
وقوله: حتـى تَأْتـيَهُمُ السّاعَةُ يقول: لا يزال هؤلاء الكفـار فـي شك من أمر هذا القرآن إلـى أن تأتـيهم الساعة بَغْتَةً وهي ساعة حشر الناس لـموقـف الـحساب بغتة, يقول: فجأة. أوْ يَأْتـيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ.
واختلف أهل التأويد فـي هذا الـيوم أيّ يوم هو؟ فقال بعضهم: هو يوم القـيامة. ذكر من قال ذلك:
19178ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا هشيـم, قال: حدثنا شيخ من أهل خراسان من الأزد يكنـي أبـا ساسان, قال: سألت الضحاك, عن قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ قال: عذاب يوم لا لـيـلة بعده.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبوُ تـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, عن عكرِمة. أن يوم القـيامة لا لـيـلة له.
وقال آخرون: بل عنـي به يوم بدر. وقالوا: إنـما قـيـل له يوم عقـيـم, أنهم لـم ينظروا إلـى اللـيـل, فكان لهم عقـيـما. ذكر من قال ذلك:
19179ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن لـيث, عن مـجاهد, قال: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ يوم بدر.
19180ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جريج: أوْ يَأْتـيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ قال ابن جُرَيج: يوم لـيس فـيه لـيـلة, لـم يناظروا إلـى اللـيـل. قال مـجاهد: عذاب يوم عظيـم.
قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا أبو تُـمَيـلة, عن أبـي حمزة, عن جابر, قال: قال مـجاهد: يوم بدر.
19181ـ حدثنـي أبو السائب, قال: حدثنا أبو إدريس, قال: أخبرنا الأعمش, عن رجل, عن سعيد بن جُبـير, فـي قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ قال: يوم بدر.
19182ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ قال: هو يوم بدر. ذكره عن أبـيّ بن كعب.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرّزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, فـي قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ قال: هو يوم بدر. عن أبـيّ بن كعب.
وهذا القول الثانـي أولـى بتأويـل الاَية لأنه لا وجه لأن يقال: لا يزالون فـي مرية منه حتـى تأتـيهم الساعة بغتة, أو تأتـيهم الساعة وذلك أن الساعة هي يوم القـيامة, فإن كان الـيوم العقـيـم أيضا هو يوم القـيامة فإنـما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرّتـين بـاختلاف الألفـاظ, وذلك ما لا معنى له. فإذ كان ذلك كذلك, فأولـى التأويـلـين به أصحهما معنى وأشبههما بـالـمعروف فـي الـخطاب, وهو ما ذكرناه فـي معناه.
فتأويـل الكلام إذن: ولا يزال الذين كفروا فـي مرية منه, حتـى تأتـيهم الساعة بغتة فـيصيروا إلـى العذاب الدائم, أو يأتـيهم عذاب يوم عقـيـم له فلا ينظروا فـيه إلـى اللـيـل ولا يؤخروا فـيه إلـى الـمساء, لكنهم يقتلون قبل الـمساء.
يقول تعالـى ذكره: السلطان والـمُلك إذا جاءت الساعة لله وحده لا شريك له ولا ينازعه يومئذ منازع وقد كان فـي الدنـيا ملوك يُدعون بهذا الاسم ولا أحد يومئذ يدعي ملكا سواه. يَحْكُمُ بَـيْنهُمْ يقول: يفصل بـين خـلقه الـمشركين به والـمؤمنـين. فـالّذين آمَنُوا بهذا القرآن, وبـمن أنزله, ومن جاء به, وعملوا بـما فـيه من حلاله وحرامه وحدوده وفرائضه فـي جَنّاتِ النعيـم يومئذ. والّذِينَ كَفَرُوا بـالله ورسوله, وكَذّبُوا بآيَات كتابه وتنزيـله, وقالوا: لـيس ذلك من عند الله, إنـما هو إفك افتراه مـحمد وأعانه علـيه قوم آخرون فأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يقول: فـالذين هذه صفتهم لهم عند الله يوم القـيامة عذاب مهين, يعنـي عذاب مذلّ فـي جهنـم.
يقول تعالـى ذكره: والذين فـارقوا أوطانهم وعشائرهم فتركوا ذلك فـي رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك, لَـيْرُزَقّنُهُم الله يوم القـيامة فـي جناته
رِزْقا حَسَنَا يعنـي بـالـحسن: الكريـم وإنـما يعنـي بـالرزق الـحسن: الثواب الـجزيـل. وَإنّ اللّهَ لَهُوَ خَيرُ الرّازِقِـينَ يقول: وإن الله لهو خير من بسط فضله علـى أهل طاعته وأكرمهم, وذكر أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فـي حكم من مات فـي سبـيـل الله, فقال بعضهم: سواء الـمقتول منهم والـميت, وقال آخرون: الـمقتول أفضل. فأنزل الله هذه الاَية علـى نبـيه صلى الله عليه وسلم, يعلـمهم استواء أمر الـميت فـي سبـيـله والـمقتول فـيها فـي الثواب عنده. وقد:
19183ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي عبد الرحمن بن شريح, عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرا علـى الأربـاع, فخرج بجنازتـي رجلـين, أحدهما قتـيـل والاَخر متوفـي فرأى ميـل الناس مع جنازة القتـيـل إلـى حفرته, فقال: أراكم أيها الناس تـميـلون مع القتـيـل وتفضلونه علـى أخيه الـمتوفـي؟ (فقالوا: هذا القتـيـل فـي سبـيـل الله. فقال) فوالذي نفسي بـيده ما أبـالـي من أيّ حفرتـيهما بُعثت اقرءوا قول الله تعالـى: وَالّذِينَ هاجَرُوا فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ ثمّ قُتِلُوا أوْ ماتُوا... إلـى قوله: وَإنّ اللّهَ لَعَلِـيـمٌ حَلِـيـمٌ.
يقول تعالـى ذكره: لـيدخـلنّ الله الـمقتول فـي سبـيـله من الـمهاجرين والـميت منهم مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وذلك الـمدخـل هو الـجنة. وَإنّ اللّهَ لَعَلِـيـمٌ بـمن يهاجر فـي سبـيـله مـمن يخرج من داره طلب الغنـيـمة أو عَرَض من عروض الدنـيا. حَلِـيـمٌ عن عصاة خـلقه, بتركه معاجلتهم بـالعقوبة والعذاب.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ذلكَ لهذا لهؤلاء الذين هاجروا فـي سبـيـل الله, ثم قُتلوا أو ماتوا, ولهم مع ذلك أيضا أن الله يعدهم النصر علـى الـمشركين الذين بغوا علـيهم فأخرجوهم من ديارهم. كما:
19184ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: ذلكَ وَمَنْ عاقَبَ بِـمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ قال: هم الـمشركون بغَوْا علـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم, فوعده الله أن ينصره, وقال فـي القصاص أيضا.
وكان بعضهم يزعم أن هذه الاَية نزلت فـي قوم من الـمشركين لقوا قوما من الـمسلـمين للـيـلتـين بقـيتا من الـمـحرّم, وكان الـمسلـمون يكرهون القتال يومئذ فـي الأشهر الـحرم, فسأل الـمسلـمون الـمشركين أن يكفّوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر, فأبى الـمشركون ذلك, وقاتلوهم فبغَوْا علـيهم, وثبت الـمسلـمون لهم فنُصروا علـيهم, فأنزل الله هذه الاَية: ذلكَ وَمَنْ عاقَبَ بِـمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمّ بُغِيَ عَلَـيْهِ بأن بدىء بـالقتال وهو له كاره, لَـيَنْصُرَنّهُ اللّهُ. (وقوله: إنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ يقول تعالـى ذكره: إن الله لذو عفو وصفح لـمن انتصر مـمن ظلـمه من بعد ما ظلـمه الظالـم بحقّ, غفور لـما فعل ببـادئه بـالظلـم مثل الذي فعل به غير معاقبه علـيه.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: ذلكَ هذا النصر الذي أنصره علـى من بغى علـيه علـى البـاغي, لأنـي القادر علـى ما أشاء. فمن قُدرته أن الله يُولِـجُ اللّـيْـلَ فـي النّهارِ يقول: يدخـل ما ينقص من ساعات اللـيـل فـي ساعات النهار, فما نقص من هذا زاد فـي هذا. وَيُولِـجُ النّهارَ فِـي اللّـيْـلِ ويدخـل ما انتقص من ساعات النهار فـي ساعات اللـيـل, فما نقص من طول هذا زاد فـي طول هذا, وبـالقُدرة التـي يَفْعَلُ ذلك ينصر مـحمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه علـى الذين بغوا علـيهم فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم. وأنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يقول: وفعل ذلك أيضا بأنه ذو سمع لـما يقولون من قول لا يخفـى علـيه منه شيء, بصير بـما يعملون, لا يغيب عنه منه شيء, كل ذلك منه بـمرأى ومسمع, وهو الـحافظ لكل ذلك, حتـى يجازى جميعهم علـى ما قالوا وعملوا من قول وعمل جزاءه.
يعنـي تعالـى ذكره بقوله ذَلكَ هذا الفعل الذي فعلت من إيلاجي اللـيـل فـي النهار وإيلاجِي النهار فـي اللـيـل لأنـي أنا الـحقّ الذي لا مثل لـي ولا شريك ولا ندّ, وأن الذي يدعوه هؤلاء الـمشركون إلها من دونه هو البـاطل الذي لا يقدر علـى صنعة شيء, بل هو الـمصنوع يقول لهم تعالـى ذكره: أفتتركون أيها الـجهال عبـادة من منه النفع وبـيده الضر وهو القادر علـى كل شيء وكلّ شيء دونه, وتعبدون البـاطل الذي لا تنفعكم عبـادته. وقوله: وأنّ اللّهَ هُوَ العَلِـيّ الكَبـيرُ يعنـي بقوله: العَلِـيّ ذو العلوّ علـى كل شيء, هو فوق كلّ شيء وكل شيء دونه. الكَبِـيرُ يعنـي العظيـم, الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه.
وكان ابن جُرَيج يقول فـي قوله: وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البـاطلُ ما:
19185ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, فـي قوله: وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البـاطِلُ قال: الشيطان.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ فقرأته عامة قرّاء العراق والـحجاز: تَدْعُونَ بـالتاء علـى وجه الـخطاب وقرأته عامة قرّاء العراق غير عاصم بـالـياء علـى وجه الـخبر, والـياء أعجب القراءتـين إلـيّ, لأن ابتداء الـخبر علـى وجه الـخطاب.
يقول تعالـى ذكره: ألَـمْ تَرَ يا مـحمد أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً يعنـي مطرا, فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً بـما ينبت فـيها من النبـات. إنّ اللّهَ لَطِيفٌ بـاستـخراج النبـات من الأرض بذلك الـماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه. خَبِـيرٌ بـما يحدث عن ذلك النبت من الـحبّ وبه. قال: فَتُصْبِحُ الأرْضُ فرفع, وقد تقدمه قوله: ألَـمْ تَرَ وإنـما قـيـل ذلك كذلك لأن معنى الكلام الـخبر, كأنه قـيـل: أعلـم يا مـحمد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض ونظير ذلك قول الشاعر:
يقول تعالـى ذكره: له مُلك ما فـي السموات وما فـي الأرض من شيء هم عبـيده ومـمالـيكه وخـلقه, لا شريك له فـي ذلك ولا فـي شيء منه, وإن الله هو الغنـيّ عن كل ما فـي السموات وما فـي الأرض من خـلقه وهم الـمـحتاجون إلـيه, الـحميد عند عبـاده فـي إفضاله علـيهم وأياديه عندهم.
يقول تعالـى ذكره: ألـم تر أن الله سخر لكم أيها الناس ما فـي الأرض من الدّوابّ والبهائم, فذلك كله لكم تصرفونه فـيـما أردتـم من حوائجكم. والفُللْكَ تَـجْرِي فـي البَحْرِ بأمْرِهِ يقول: وسخر لكم السفن تـجري فـي البحر بأمره, يعنـي بقُدرته, وتذلـيـله إياها لكم كذلك.
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: والفُلْكَ تَـجْرِي فقرأته عامة قرّاء الأمصار: والفُلْكَ نصبـا, بـمعنى سخر لكم ما فـي الأرض, والفلك عطفـا علـى «ما», وعلـى تكرير «أن» وأن الفلك تـجري. ورُوي عن الأعرج أنه قرأ ذلك رفعا علـى الابتداء. والنصب هو القراءة عندنا فـي ذلك لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه. ويـمْسِكُ السّماءَ أنْ تَقَعَ عَلـى الأرْضِ يقول: ويـمسك السماء بقَدرته كي لا تقع علـى الأرض إلا بأذنه. ومعنى قوله: أنْ تَقَعَ: أن لا تقع. إنّ اللّهَ بـالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيـمٌ بـمعنى: أنه بهم لذو رأفة ورحمة فمن رأفته بهم ورحمته لهم أمسك السماء أن تقع علـى الأرض إلا بإذنه, وسخر لكم ما وصف فـي هذه الاَية تفضلاً منه علـيكم بذلك.
يقول تعالـى ذكره: والله الذي أنعم علـيكم هذه النعم, هو الذي جعل لكم أجساما أحياء بحياة أحدثها فـيكم, ولـم تكونوا شيئا, ثم هو يـميتكم من بعد حياتكم فـيفنـيكم عند مـجيء آجالكم ثم يحيـيكم بعد مـماتكم عند بعثكم لقـيام الساعة. إنّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ يقول: إن ابن آدم لـجحود لنعم الله التـي أنعم بها علـيه من حُسن خـلقه إياه, وتسخيره له ما سخر مـما فـي الأرض والبرّ والبحر, وتركه إهلاكه بإمساكه السماء أن تقع علـى الأرض بعبـادته غيره من الاَلهة والأنداد, وتركه إفراده بـالعبـادة وإخلاص التوحيد له.
وقوله: لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا يقول: لكل جماعة قوم هي خـلت من قبلك, جعلنا مألفـا يألفونه ومكانا يعتادونه لعبـادتـي فـيه وقضاء فرائضي وعملاً يـلزمونه. وأصل الـمنسك فـي كلام العرب الـموضع الـمعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لـخير أو شرّ يقال: إن لفلان منسكا يعتاده: يراد مكانا يغشاه ويألفه لـخير أو شرّ. وإنـما سميت مناسك الـحجّ بذلك, لتردّد الناس إلـى الأماكن التـي تعمل فـيها أعمال الـحجّ والعُمرة. وفـيه لغتان: «مَنْسِك» بكسر السين وفتـح الـميـم, وذلك من لغة أهل الـحجاز, و «مَنْسَك» بفتـح الـميـم والسين جميعا, وذلك من لغة أسد. وقد قرىء بـاللغتـين جميعا.
وقد اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بقوله: لِكُلّ أُمةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا: أيّ الـمناسك عنـي به؟ فقال بعضهم: عنـي به: عيدهم الذي يعتادونه. ذكر من قال ذلك:
19186ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا هُمْ ناسِكُوهُ يقول: عيدا.
وقال آخرون: عنـي به ذبح يذبحونه ودم يهريقونه. ذكر من قال ذلك:
19187ـ حدثنـي أبو كريب, قال: حدثنا ابن يـمان, قال: حدثنا ابن جُرَيج, عن مـجاهد, فـي قوله: لِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكا هُمْ ناسِكُوهُ قال: إراقة الدم بـمكة.
حدثنا مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: هُمْ ناسِكُوهُ قال: إهراق دماء الهدي.
19188ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: مَنْسَكا قال: ذبحا وحجّا.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: عنـي بذلك إراقة الدم أيام النـحر بـمِنى لأن الـمناسك التـي كان الـمشركون جادلوا فـيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إراقة الدم فـي هذه الأيام, علـى أنهم قد كانوا جادلوه فـي إراقة الدماء التـي هي دماء ذبـائح الأنعام بـما قد أخبر الله عنهم فـي سورة الأنعام. غير أن تلك لـم تكن مناسك, فأما التـي هي مناسك فإنـما هي هدايا أو ضحايا ولذلك قلنا: عنـي بـالـمنسك فـي هذا الـموضع الذبح الذي هو بـالصفة التـي وصفنا.
وقوله: فَلا يُنازِعُنّكَ فِـي الأَمْرِ يقول تعالـى ذكره: فلا ينازعنك هؤلاء الـمشركون بـالله يا مـحمد فـي ذبحك ومنسكك بقولهم: أتأكلون ما قتلتـم, ولا تأكلون الـميتة التـي قتلها الله؟ فأنك أولـى بـالـحقّ منهم, لأنك مـحقّ وهم مبطلون.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19189ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد: فَلا يُنازِعُنّكَ فِـي الأَمْرِ قال: الذبح.
19190ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: فَلا يُنازِعُنّكَ فِـي الأَمْرِ فلا تتـحام لـحمك.
وقوله: وَادْعُ إلـى رَبّكَ يقول تعالـى ذكره: وادع يا مـحمد منازعيك من الـمشركين بـالله فـي نسكك وذبحك إلـى اتبـاع أمر ربك فـي ذلك بأن لا يأكلوا إلا ما ذبحوه بعد اتبـاعك وبعد التصديق بـما جئتهم به من عند الله, وتـجنبوا الذبح للاَلهة والأوثان وتبرّءوا منها, إنك لعلـى طريق مستقـيـم غير زائل عن مـجة الـحقّ والصواب فـي نسكك الذي جعله لك ولأمتك ربك, وهم الضلال علـى قصد السبـيـل, لـمخالفتهم أمر الله فـي ذبـائحهم ومطاعمهم وعبـادتهم الاَلهة.
يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وإن جادلك يا مـحمد هؤلاء الـمشركون بـالله فـي نسكك, فقـيـل: الله أعلـم بـما تعملون ونعمل. كما:
19191ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي جحاج, عن ابن جريج, عن مـجاهد: وَإنْ جادَلُوكَ قال: قول أهل الشرك: أما ما ذبح الله بـيـمينه. فَقُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا تَعْمَلُونَ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
وقوله: اللّهُ يَحْكُمْ بَـيْنَكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ فِـيـما كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتَلِفُونَ يقول تعالـى ذكره: والله يقضي بـينكم يوم القـيامة فـيـما كنتـم فـيه من أمر دينكم تـختلفون, فتعلـمون حينئذ أيها الـمشركون الـمـحقّ من الـمبطل.
يقول تعالـى ذكره: ألـم تعلـم يا مـحمد أن الله يعلـم كلّ ما فـي السموات السبع والأرضين السبع, لا يخفـى علـيه من ذلك شيء, وهو حاكم بـين خـلقه يوم القـيامة, علـى علـم منه بجميع ما عملوه فـي الدنـيا, فمـجازي الـمـحسن منهم بإحسانه والـمسيء بإساءته. إنّ ذَلِكَ فـي كِتَابٍ يقول تعالـى ذكره: إن علـمه بذلك فـي كتاب, وهو أمّ الكتاب الذي كتب فـيه ربنا جلّ ثناؤه قبل أن يخـلق خـلقه ما هو كائن إلـى يوم القـيامة. إنّ ذلكَ عَلـى اللّهِ يَسِيرٌ. كما:
19192ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حدثنا ميسر بن إسماعيـل الـحلبـيّ, عن الأوزاعيّ, عن عبدة بن أبـي لُبـابة, قال: علـم الله ما هو خالق وما الـخـلق عاملون, ثم كتبه, ثم قال لنبـيه: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السّماءِ والأرْضِ إنّ ذَلِكَ فِـي كِتابٍ إنّ ذَلِكَ عَلـى اللّهِ يَسِيرٌ.
19193ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي ميسر, عن أرطاة بن الـمنذر, قال: سمعت ضَمْرة بن حبـيب يقول: إن الله كان علـى عرشه علـى الـماء, وخـلق السموات والأرض بـالـحقّ, وخـلق القلـم فكتب به ما هو كائن من خـلقه, ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومـجّده ألف عام, قبل أن يبدأ شيئا من الـخـلق.
19194ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي معتـمر بن سلـيـمان, عن أبـيه, عن سيار, عن ابن عبـاس, أنه سأل كعب الأحبـار عن أمّ الكتاب, فقال: علـم الله ما هو خالق وما خـلقه عاملون, فقال لعلـمه: كُنْ كتابـا.
وكان ابن جُرَيج يقول فـي قوله: إنّ ذَلَكَ فِـي كِتابٍ ما:
19195ـ حدثنا به القاسم, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: إنّ ذَلِكَ فِـي كِتابٍ قال: قوله: اللّهُ يَحْكُم بَـيْنَكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ فِـيـما كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتِلَفُونَ.
وإنـما اخترنا القول الذي قلنا فـي ذلك, لأن قوله: إنّ ذلكَ إلـى قوله: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السّمآءِ والأرْضِ أقرب منه إلـى قوله: اللّهُ يَحْكُمُ بَـيْنَكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ فِـيـما كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتَلِفُونَ, فكان إلـحاق ذلك بـما هو أقرب إلـيه أولـى منه بـما بعد.
وقوله: إنّ ذَلِكَ عَلـى اللّهِ يَسِيرٌ اختلف فـي ذلك, فقال بعضهم: معناه: إن الـحكم بـين الـمختلفـين فـي الدنـيا يوم القـيامة علـى الله يسير. ذكر من قال ذلك:
19196ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج: إنّ ذَلِكَ عَلـى الله يَسِيرٌ قال: حكمه يوم القـيامة, ثم قال بـين ذلك: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السّماءِ وَالأرضِ إنّ ذلكَ فـي كتابٍ.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كتاب القلـم الذي أمره الله أن يكتب فـي اللوح الـمـحفوظ ما هو كائن علـى الله يسير يعنـي هين. وهذا القول الثانـي أولـى بتأويـل ذلك, وذلك أن قوله: إنّ ذلكَ عَلـى اللّهَ يَسِيرٌ... إلـى قوله: ألَـمْ تَعْلَـمْ أنّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السّماءِ والأرْضِ بـينهما فإلـحاقه بـما هو أقرب أولـى ما وجد للكلام, وهو كذلك مخرج فـي التأويـل صحيح.
يقول تعالـى ذكره: ويعبد هؤلاء الـمشركون بـالله من دونه ما لـم ينزل به جلّ ثناؤه لهم حجة من السماء فـي كتاب من كتبه التـي أنزلها إلـى رسله, بأنها آلهة تصلـح عبـادتها فـيعبدوها, بأن الله أذن لهم فـي عبـادتها, وما لـيس لهم به علـم أنها آلهة. وما للظّالِـمِينَ مِنْ نَصيِر يقول: وما للكافرين بـالله الذين يعبدون هذه الأوثان من ناصر ينصرهم يوم القـيامة, فـينقذهم من عذاب الله ويدفع عنهم عقابه إذا أراد عقابهم.
يقول تعالـى ذكره: وإذا تُتلـى علـى مشركي قريش العابدين من دون الله ما لـم ينزل به سلطانا آياتُنا يعنـي: آيات القرآن, بَـيّناتٍ يقول: واضحات حججها وأدلتها فـيـما أنزلت فـيه. تَعْرِفُ فِـي وُجُوهِ الّذِينَ كَفَرُوا الـمُنْكَرَ يقول: تتبـين فـي وجوههم ما ينكره أهل الإيـمان بـالله من تغيرها, لسماعهم بـالقرآن.
وقوله: يَكادُونَ يَسْطُونَ بـالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَـيْهِمْ آياتِنا يقول: يكادون يبطشون بـالذين يتلون علـيهم آيات كتاب الله من أصحاب النبـيّ صلى الله عليه وسلم, لشدّة تكرّههم أن يسمعوا القرآن ويُتْلـى علـيهم.
وبنـحو ما قلنا فـي تأويـل قوله يَسْطُونَ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19197ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: يَكادُونَ يَسْطُونَ يقول: يبطشون.
19198ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: يَكادُونَ يَسْطُونَ يقول: يقعون بـمن ذكرهم.
19199ـ حدثنا مـحمد بن عمارة, قال: حدثنا عبد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيـل, عن أبـي يحيى, عن مـجاهد: يَكادُونَ يَسْطُونَ بـالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَـيْهِمْ آياتِنا قال: يكادون يقعون بهم.
19200ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: يَكادُونَ يَسْطُونَ قال: يبطشون كفـار قريش.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19201ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: يَكادُونَ يَسْطُونَ بـالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَـيْهِمْ آياتنا يقول: يكادون يأخذونهم بأيديهم أخذا.
وقوله: قُلْ أفأُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذَلِكُم يقول: أفأنبئكم أيها الـمشركون بأكره إلـيكم من هؤلاء الذين تتكرّهون قراءتهم القرآن علـيكم, هي النّارُ وعدها الله الذين كفروا. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقول: إن الـمشركين قالوا: والله إن مـحمدا وأصحابه لشرّ خـلق الله فقال الله لهم: قل أفأنبئكم أيها القائلون هذا القول بشرّ من مـحمد صلى الله عليه وسلم؟ أنتـم أيها الـمشركون الذين وعدهم الله النار. ورفعت «النار» علـى الابتداء, ولأنها معرفة لا تصلـح أن ينعت بها الشرّ وهو نكرة, كما يقال: مررت برجلـين: أخوك وأبوك, ولو كانت مخفوضة كان جائزا وكذلك لو كان نصبـا للعائد من ذكرها فـي وعدها وأنت تنوي بها الاتصال بـما قبلها. يقول تعالـى ذكره: فهؤلاء هم أشرار الـخـلق لا مـحمد وأصحابه.)
وقوله: وَبِئْسَ الـمَصِيرُ يقول: وبئس الـمكان الذي يصير إلـيه هؤلاء الـمشركون بـالله يوم القـيامة.
يقول تعالـى ذكره: يا أيها الناس جعل لله مثل وذكر. ومعنى «ضرب» فـي هذا الـموضع: «جعل» من قولهم: ضرب السلطان علـى الناس البعث, بـمعنى: جعل علـيهم. وضرب الـجزية علـى النصارى, بـمعنى جَعْل ذلك علـيهم والـمَثَل: الشبّهَ, يقول جلّ ثناؤه: جعل لـي شبه أيها الناس, يعنـي بـالشبّه والـمَثَل: الاَلهة, يقول: جعل لـي الـمشركون والأصنام شبها, فعبدوها معي وأشركوها فـي عبـادتـي. فـاسْتَـمِعُوا له يقول: فـاستـمعوا حال ما مثلوه وجعلوه فـي عبـادتهم إياه شبها وصفته. إنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْـلُقُوا ذُبـابـا يقول: إن جميع ما تعبدون من دون الله من الاَلهة والأصنام لو جمعت لـم يخـلقوا ذبـابـا فـي صغره وقلّته, لأنها لا تقدر علـى ذلك ولا تطيقه, ولو اجتـمع لـخـلقه جميعها. والذبـاب واحد, وجمعه فـي القلة أذبة وفـي الكثـير ذِبّـان, نظير غُراب يجمع فـي القلة أَغْربة وفـي الكثرة غِرْبـان.
وقوله: وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذّبـابُ شَيْئا يقول: وإن يسلب الاَلهة والأوثان الذبـابُ شيئا مـما علـيها من طيب وما أشبهه من شيء لا يستنقذوه منه: يقول: لا تقدر الاَلهة أن تستنقذ ذلك منه.
واختلف فـي معنى قوله: ضَعُفَ الطّالِبُ وَالـمَطْلُوبُ فقال بعضهم: عنـي بـالطالب: الاَلهة, وبـالـمطلوب: الذبـاب. ذكر من قال ذلك:
19202ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: حجاج, عن ابن جُرَيج, قال ابن عبـاس, فـي قوله: ضَعُفَ الطّالِبُ قال: آلهتهم. وَالـمَطْلُوبُ: الذبـاب.
وكان بعضهم يقول: معنى ذلك: ضَعُفَ الطّالِبُ من بنـي آدم إلـى الصنـم حاجته, والـمَطْلُوبُ إلـيه الصنـم أن يعطي سائله من بنـي آدم ما سأله, يقول: ضعف عن ذلك وعجز.
والصواب من القول فـي ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عبـاس من أن معناه: وعجز الطالب وهو الاَلهة أن تستنقذ من الذبـاب ما سلبها إياه, وهو الطيب وما أشبهه والـمطلوب: الذبـاب.
وإنـما قلت هذا القول أولـى بتأويـل ذلك, لأن ذلك فـي سياق الـخبر عن الاَلهة والذبـاب فأن يكون ذلك خبرا عما هو به متصل أشبه من أن يكون خبرا عما هو عنه منقطع. وإنـما أخبر جلّ ثناؤه عن الاَلهة بـما أخبر به عنها فـي هذه الاَية من ضعفها ومهانتها, تقريعا منه بذلك عَبَدتها من مشركي قريش, يقول تعالـى ذكره: كيف يجعل مثل فـي العبـادة ويشرك فـيها معي ما لا قدرة له علـى خـلق ذبـاب, وإن أخذ له الذبـاب فسلبه شيئا علـيه لـم يقدر أن يـمتنع منه ولا ينتصر, وأنا الـخالق ما فـي السموات والأرض ومالكٌ جميع ذلك, والـمـحيـي من أردت والـمـميت ما أردت ومن أردت. إن فـاعل ذلك لا شكّ أنه فـي غاية الـجهل.
وقوله: ما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ يقول: ما عظم هؤلاء الذين جعلوا الاَلهة لله شريكا فـي العبـادة حقّ عظمته حين أشركوا به غيره, فلـم يخـلصوا له العبـادة ولا عرفوه حقّ معرفته من قولهم: ما عرفت لفلان قدره إذا خاطبوا بذلك من قَصّر بحقه وهم يريدون تعظيـمه.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19203ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذّبـابُ شَيْئا... إلـى آخر الاَية, قال: هذا مثل ضربه الله لاَلهتهم. وقرأ: ضَعُفَ الطّالِبُ وَالـمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ حين يعبدون مع الله ما لا ينتصف من الذبـاب ولا يـمتنع منه.
وقوله: إنّ اللّهَ لَقَوِيّ يقول: إن الله لقويّ علـى خـلق ما يشاء من صغير ما يشاء من خـلقه وكبـيره. عَزِيزٌ يقول: منـيع فـي مُلكه لا يقدر شيء دونه أن يسلبه من ملكه شيئا, ولـيس كآلهتكم أيها الـمشركون الذين تدعون من دونه الذين لا يقدرون علـى خـلق ذبـاب ولا علـى الامتناع من الذبـاب إذا استلبها شيئا ضعفـا ومهانة.
يقول تعالـى ذكره: الله يختار من الـملائكة رسلاً كجبريـل وميكائيـل اللذين كانا يرسلهما إلـى أنبـيائه ومن شاء من عبـاده ومن الناس, كأنبـيائه الذين أرسلهم إلـى عبـاده من بنـي آدم. ومعنى الكلام: الله يصطفـي من الـملائكة رسلاً, ومن الناس أيضا رسلاً. وقد قـيـل: إنـما أنزلت هذه الاَية لـما قال الـمشركون: أنزل علـيه الذكر من بـيننا, فقال الله لهم: ذلك إلـيّ وبـيدي دون خـلقـي, أختار من شئت منهم للرسالة.
وقوله: إنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يقول: إن الله سميع لـما يقول الـمشركون فـي مـحمد صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند ربه, بصير بـمن يختاره لرسالته من خـلقه.
يقول تعالـى ذكره: الله يعلـم ما كان بـين أيدي ملائكته ورسله, من قبل أن يخـلقهم وما خـلفهم, يقول: ويعلـم ما هو كائن بعد فنائهم. وَإلـى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يقول: إلـى الله فـي الاَخرة تصير إلـيه أمور الدنـيا, وإلـيه تعود كما كان منه البدء.
يقول تعالـى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ارْكَعُوا لله فـي صلاتكم وَاسْجُدُوا له فـيها وَاعْبُدُوا رَبّكُمْ يقول: وذلوا لربكم, واخضعوا له بـالطاعة, وَافْعَلُوا الـخَيْرَ الذي أمركم ربكم بفعله لَعَلّكُمْ تُفْلِـحُونَ يقول: لتفلـحوا بذلك, فتدركوا به طَلِبـاتكم عند ربكم.
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: وَجاهِدُوا فِـي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ فقال بعضهم: معناه: وجاهدوا الـمشركين فـي سبـيـل الله حقّ جهاده. ذكر من قال ذلك:
19204ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي سلـيـمان بن بلال, عن ثور بن زيد, عن عبد الله بن عبـاس, فـي قوله: وَجاهِدُوا فِـي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ كما جاهدتـم أوّل مرّة فقال عمر: من أمر بـالـجهاد؟ قال: قبـيـلتان من قريش مخزوم وعبد شمس. فقال عمر: صدقت.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تـخافوا فـي الله لومة لائم. قالوا: وذلك هو حقّ الـجهاد. ذكر من قال ذلك:
19205ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عبـاس, فـي قوله: وَجاهِدُوا فـي اللّهِ حَقّ جِهادِهِ لا تـخافو فـي الله لومة لائم.
وقال آخرون: معنى ذلك: اعملوا بـالـحقّ حقّ عمله. وهذا قول ذكره عن الضحاك بعض من فـي روايته نظر.
والصواب من القول فـي ذلك: قول من قال: عُنى به الـجهاد فـي سبـيـل الله لأن الـمعروف من الـجهاد ذلك, وهو الأغلب علـى قول القائل: جاهدت فـي الله. وحقّ الـجهاد: هو استفراغ الطاقة فـيه.
وقوله: هُوَ اجْتَبـاكُمْ يقول: هو اختاركم لدينه, واصطفـاكم لـحرب أعدائه والـجهاد فـي سبـيـله وقال ابن زيد فـي ذلك, ما:
19206ـ حدثنـي به يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد فـي قوله: هُوَ اجْتَبـاكُمْ قال: هو هداكم.
وقوله: وما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول تعالـى ذكره: وما جعل علـيكم ربكم فـي الدين الذي تعبدكم به من ضيق, لا مخرج لكم مـما ابتلـيتـم به فـيه بل وسّع علـيكم, فجعل التوبة من بعض مخرجا, والكفّـارة من بعض, والقصاص من بعض, فلا ذنب يذنب الـمؤمن إلا وله منه فـي دين الإسلام مخرج.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19207ـ حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرنـي ابن زيد, عن ابن شهاب, قال: سأل عبد الـملك بن مروان علـيّ بن عبد الله بن عبـاس عن هذه الاَية: ومَا جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الّدِين مِنْ حَرَجٍ فقال علـيّ بن عبد الله: الـحَرَج: الضيق, فجعل الله الكفـارات مَخْرجا من ذلك, سمعت ابن عبـاس يقول ذلك.
19208ـ قال: أخربنا ابن وهب, قال: ثنـي سفـيان بن عيـينة, عن عبـيد الله بن أبـي يزيد, قال: سمعت ابن عبـاس يُسْأل عن: مَا جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فـي الّدهين مِنْ حَرَج, قال: ما ها هنا من هُذَيـل أحد؟ فقال رجل: نعم, قال: ما تعدّون الـحرجة فـيكم؟ قال: الشيء الضيق. قال ابن عبـاس: فهو كذلك.
حدثنا الـحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن ابن عيـينة, عن عبـيد الله بن أبـي يزيد, قال: سمعت ابن عبـاس, وذكر نـحوه, إلا أنه قال: فقال ابن عبـاس: أها هنا أحد من هذيـل؟ فقال رجل: أنا, فقال أيضا: ما تعدّون الـحرج؟ وسائر الـحديث مثله.
19209ـ حدثنـي عمران بن بكار الكُلاعيّ, قال: حدثنا يحيى بن صالـح, قال: حدثنا يحيى بن حمزة, عن الـحكم بن عبد الله, قال: سمعت القاسم بن مـحمد يحدّث, عن عائشة, قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية: ومَا جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال: «هو الضّيقُ».
19210ـ حدثنا حميد بن مسعدة, قال: حدثنا يزيد بن زريع, قال: حدثنا أبو خـلدة, قال: قال لـي أبو العالـية: أتدري ما الـحرج؟ قلت: لا أدري. قال: الضيق. وقرأ هذه الاَية: ومَا جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ.
19211ـ حدثنا مـحمد بن بشار, قال: حدثنا حماد بن مسعدة, عن عوف, عن الـحسن, فـي قوله: ومَا جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال: من ضيق.
19212ـ حدثنا عمرو بن بندق, قال: حدثنا مروان بن معاوية, عن أبـي خـلدة, قال: قال لـي أبو العالـية: هل تدري ما الـحَرَج؟ قلت لا, قال: الضيق, إن الله لـم يضيق علـيكم, لـم يجعل علـيكم فـي الدين من حرج.
19213ـ حدثنـي يعقوب, قال: حدثنا ابن علـية, عن ابن عون, عن القاسم أنه تلا هذه الاَية: ومَا جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ حَرَجٍ قال: تدرون ما الـحرج؟ قال: الضيق.
19214ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن يونس بن أبـي إسحاق, عن أبـيه, عن سعيد بن جُبـير, عن ابن عبـاس, قال: إذا تعاجم شيء من القرآن, فـانظروا فـي الشعر, فإن الشعر عربـيّ. ثم دعا ابن عبـاس أعرابـيّا, فقال: ما الـحَرَج؟ قال: الضيق. قال: صدقت
19215ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال: من ضيق.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: ما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ من ضيق فـي أوقات فروضكم إذا التبست علـيكم, ولكنه قد وسع علـيكم حتـى تَـيَقّنوا مـحلها. ذكر من قال ذلك:
19216ـ حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن مغيرة, عن عثمان بن بشار, عن ابن عبـاس, فـي قوله: وَما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال: هذا فـي هلال شهر رمضان إذا شكّ فـيه الناس, وفـي الـحجّ إذا شكوا فـي الهلال, وفـي الفطر والأضحى إذا التبس علـيهم, وأشبـاهه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما جعل فـي الإسلام من ضيق, بل وسعه. ذكر من قال ذلك:
19217ـ حدثنـي مـحمد بن سعد, قال: ثنـي أبـي, قال: ثنـي عمي, قال: ثنـي أبـي, عن أبـيه, عن ابن عبـاس, قوله: وما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول: ما جعل علـيكم فـي الإسلام من ضيق, هو واسع, وهو مثل قوله فـي الأنعام: فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدِ أنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهْ ضَيّقا حَرَجا يقول: من أراد أن يضله يضيق علـيه صدره, حتـى يجعل علـيه الإسلام ضيقا, والإسلامُ واسع.
19218ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: وما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ يقول: من ضيق, يقول: جعل الدين واسعا ولـم يجعله ضيّقا.
وقوله: مِلّةَ أبِـيكُمْ إبْرَاهِيـمَ نصب ملة بـمعنى: وما جعل علـيكم فـي الدين من حرج, بل وسعه, كملّة أبـيكم فلـما لـم يجعل فـيها الكاف اتصلت بـالفعل الذي قبلها فنصبت. وقد يحتـمل نصبها أن تكون علـى وجه الأمر بها, لأن الكلام قبله أمر, فكأنه قـيـل: اركعوا واسجدوا والزموا ملَة أبـيكم إبراهيـم.) وقوله: هُوَ سمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ مِنْ قَبْلُ وفِـي هَذَا يقول تعالـى ذكره: سماكم يا معشر من آمن بـمـحمد صلى الله عليه وسلم الـمسلـمين من قبل.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19219ـ حدثنـي علـيّ, قال: حدثنا عبد الله, قال: ثنـي معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ يقول: الله سماكم.
حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: أخبرنـي عطاء بن ابن أبـي ربـاح, أنه سمع ابن عبـاس يقول: الله سماكم الـمسلـمين من قبل.
19220ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة, وحدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعا, عن معمر, عن قَتادة: هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ قال: الله سماكم الـمسلـمين من قبل.
19221ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: هُوَ سمّاكُمُ الـمُسْلـمِينَ قال: الله سماكم.
حدثنا القاسم قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مـجاهد, مثله.
19222ـ حُدثت عن الـحسين, قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد, قال: سمعت الضحاك يقول, فـي قوله: هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ مِنْ قَبْلُ يقول: الله سماكم الـمسلـمين.
وقال آخرون: بل معنا: إبراهيـم سماكم الـمسلـمين وقالوا هو كناية من ذكر إبراهيـم صلى الله عليه وسلم: ذكر من قال ذلك:
19223ـ حدثنـي يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ قال: ألا ترى قول إبراهيـم وَاجْعَلْنا مُسْلِـمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنا أُمّةً مُسْلِـمَةً لَكَ قال: هذا قول إبراهيـم هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ ولـم يذكر الله بـالإسلام والإيـمان غير هذه الأمة, ذُكرت بـالإيـمان والإسلام جميعا, ولـم نسمع بأمة ذكرت إلا بـالإيـمان.
ولا وجه لـما قال ابن زيد من ذلك لأنه معلوم أن إبراهيـم لـم يسمّ أمة مـحمد مسلـمين فـي القرآن, لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويـل, وقد قال الله تعالـى ذكره: هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ مِنْ قَبْلُ وفـي هَذَا ولكن الذي سمانا مسلـمين من قبل نزول القرآن وفـي القرآن الله الذي لـم يزل ولا يزال. وأما قوله: مِنْ قَبْلُ فإن معناه: من قبل نزول هذا القرآن فـي الكتب التـي نزلت قبله. وفـي هَذَا يقول: وَفِـي هَذَا الكِتابِ.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19224ـ حدثنـي مـحمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث, قال: حدثنا الـحسن, قال: حدثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبـي نـجيح, عن مـجاهد, قوله: هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمينَ مِن قَبْلُ وفـي هذا القرآن.
19225ـ حدثنا القاسم, قال: حدثنا الـحسين, قال: ثنـي حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, قال مـجاهد: مِنْ قَبْلُ قال: فـي الكتب كلها والذكر وفـي هَذَا يعنـي القرآن.
وقوله: لِـيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا عَلَـيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلـى النّاسِ يقول تعالـى ذكره: اجتبـاكم الله وسماكم أيها الـمؤمنون بـالله وآياته, من أمة مـحمد صلى الله عليه وسلم مسلـمين, لـيكون مـحمد رسول الله شهيدا علـيكم يوم القـيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إلـيكم, وتكونوا أنتـم شهداء حينئذ علـى الرسل أجمعين أنهم قد بلّغوا أمـمهم ما أُرسلوا به إلـيهم.
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
19226ـ حدثنا ابن عبد الأعلـى, قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: هُوَ سَمّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ مِنْ قَبْلُ قال: الله سماكم الـمسلـمين من قبل. وَفِـي هَذَا لِـيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيدا عَلَـيْكُمْ بأنه بلّغكم. وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلـى النّاسِ أنّ رسلهم قد بلغتهم.
19227ـ وبه عن قَتادة, قال: أعطيت هذه الأمة ما لـم يعطه إلا نبـيّ, كان يقال للنبـيّ: اذهب فلـيس علـيك حرج وقال الله: ومَا جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ, وكان يقال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: أنت شهيد علـى قومك وقال الله لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ علـى النّاسِ وكان يقال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: سَلْ تُعْطَهْ وقال الله: ادْعُونِـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ.
حدثنا الـحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لـم يعطها إلا نبـيّ, كان يقال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: اذهب فلـيس علـيك حَرَج فقال الله: وما جَعَلَ عَلَـيْكُمْ فِـي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ قال: وكان يقال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: أنت شهيد علـى قومك وقال الله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلـى النّاسِ وكان يقال للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: سَلْ تُعْطَهْ وقال الله اُدْعُونِـي أسْتَـجِبْ لَكُمْ. نهاية تفسير الإمام الطبري لسورة الحج